مبدأ «مجانية القضاء» مطلب لضمان حقوق التقاضي
وبالنظر إلى الدول التي تبنت ذلك المبدأ، نجد أن القضاء في الإسلام قضاء مجاني، حيث يتحمل بيت المال الإنفاق على مرفق القضاء، وهو الأصل العام الذي ساد في النظام الإسلامي. وبذلك يتضح أن الإسلام ينظر إلى مجانية القضاء كأساس للعدل، وهذا ما سارت عليه المملكة العربية السعودية من تفعيل لمبدأ المجانية، وعدم فرض رسوم قضائية على حق التقاضي.
كما أن فرنسا منذ العام 1977 ألغت الرسوم القضائية إعمالاً لمبدأ مجانية التقاضي، وهناك الكثير من الدول سارت على هذا المبدأ.
وما يجدر ذكره هو أنه في المغرب، طالبت لجنة الدفاع عن حقوق الإنسان بضمان مجانية التقاضي وإلغاء الرسوم القضائية، وذلك تفعيلاً لمبدأ «القضاء في خدمة المواطنين»، والذي يعني اللجوء إلى القضاء بدون عوائق لكافة المتقاضين. جاء ذلك في مذكّرةٍ رفعتها ذات المنظمة الحقوقية إلى كل من مدير الديوان الملكي ورئيس الحكومة ووزير العدل ورئيسي غرفتي البرلمان ورؤساء الفرق البرلمانية، ناشدتهم من خلالها العمل على إلغاء الرسوم القضائية وحذف الباب المتعلق بها من مشروع القانون المالي لسنة 2013. كما أن ضمان الخدمات التي تقوم بها السلطة القضائية يعد وظيفةً من وظائف الدولة تماماً كما هو الشأن بالنسبة إلى الأمن الذي يجب أن يتمتع به الجميع على قدم المساواة.
كما أن وجود باب من أبواب مداخيل الميزانية العامة للدولة في مشروع القانون المالي بعنوان «الرسوم القضائية»، و«هي تعني مقابل الخدمات التي تقوم بها السلطة القضائية في حلّها للنزاعات المعروضة عليها»، يعتبر «ضرباً لمبدأ مجانية التقاضي الذي يعد من مبادئ حقوق الإنسان المتعارف عليها دولياً».
في حين أن هناك العديد من الدول التي مازالت تفرض رسوماً قضائية – رغم أنها تنصّ في دساتيرها على أن حق التقاضي مكفول للجميع – ما يعدم تطبيق ذلك المبدأ من بين تلك الدول كاليمن ومصر والبحرين التي تفرض رسوماً على رفع الدعوى بنسب معينة من قيمة المبلغ المطالب به، كما أن تبليغ الخصوم ببعض الأحوال قد يكون مقابل رسم. وبعد الحكم في القضية فإن التنفيذ يكون برسم كذلك. ولائحة الدعاوي برسم، ولائحة التنفيذ برسم، وندب خبير في الدعوى برسم، وحبس المنفذ ضده على نفقة المنفذ ومنعه من السفر وأي تكاليف أو مصاريف متعلقة بالدعاوي بكافة مراحلها برسوم.
صحيح أنه يوجد نصوص خاصة متعلقة بالإعفاء من الرسوم القضائية كما هو الحال بالنسبة للقضايا العمالية مثلاً بمملكة البحرين، وصحيح أنه يوجد نصوص خاصة متعلقة بتأجيل الرسوم القضائية كما هو الحال بالنسبة إلى قضايا التعويض أيضاً في البحرين، إلا أن ذلك الأمر لا يكفي لتفعيل تلك الخدمة على أكمل وجه في مرفق القضاء.
والحقيقة أن مسألة فرض الرسوم القضائية قد منعت الكثيرين من الأفراد في البحرين من الاستفادة من مرفق القضاء وصولاً للعدالة واستحصالاً لحقوقهم، وذلك لعجزهم عن تغطية رسوم أو مصاريف الدعاوي.
وبالرجوع إلى أهم ما يقال في تفنيد مسألة فرض الرسوم القضائية هو عدم جواز المجانية إلا لصاحب الحق فقط دون الطرف الآخر مغتصب الحق أو المماطل أو منكر الحق، لأن الإقرار بمبدأ مجانية التقاضي لكافة أطراف الخصومة سواءً صاحب الحق أو مغتصب الحق، أمر يتنافى مع مبدأ «اقتصاديات إدارة العدالة»، ويجعل لمغتصب الحق دعماً للمماطلة والتسويف.
كما أنه من ناحية أخرى يجعل ميزانية الدولة التي هي حقٌّ لكافة مواطنيها الشرفاء عرضة لتحميلها بأعباء دعم مغتصبي الحقوق، وهو ما يتنافى مع أساسيات العدالة وأساسيات اقتصاديات إدارة العدالة من ناحية واقتصاديات تمويل التنمية المستدامة من ناحية أخرى.
والواقع يقول بأن من يدفعها هو صاحب الحق وهو المحتاج للاستفادة من مرفق القضاء لتحصيل حقه، صحيحٌ أن الرسوم والمصاريف في حال كسبه للدعوى تفرض على الطرف الآخر (الخاسر)، لكن واقع محاكمنا يستلزم المرور بمحاكم التنفيذ التي تميت الحق بإجراءاتها البطيئة وغير الفعالة، عندها سيتكبد صاحب الحق رسوم دعوى، ورسوم تنفيذ، ورسوم لوائح دعوى، ولوائح تنفيذ ومصاريف دعوى، إن استلزمت دعواه، ورسوم استئناف لو ارتأى ذلك، ورسوم إجراءات التنفيذ، فحبس المدين برسم، ومنع السفر من المدين برسم، ومأكل ومشرب المدين في الحبس برسم، وعليه فبدلاً من أن يقوم صاحب الحق باستحصال حقّه الذي قد يحتاج لمحامٍ أيضاً لتغطية نقصه بالقانون والإجراءات، سيصرف نظره عن الموضوع برمته لأنه سيكون أمام خسارة مالية قد تكون أكبر مما سيتحصله من المدين، وقد يتهرّب المدين من الدفع بشكل كلي فلا يجني معها صاحب الحق إلا الخسارة، أو أن حقه مع بصيص من الأمل سيحصل عليه ورثته!
كما أن ما ورد أيضاً على ألسنة القائلين بصحة فرض الرسوم القضائية، أن تلك الرسوم للحيلولة دون رفع دعاوى كيدية. إلا أن تلك الرؤية مردودٌ عليها كما أرى وذلك لأن الدعاوى الكيدية أصحابها –في الغالب الأعم- من الأشخاص الذين لا يهمهم أي شيء إلا الكيد والمماطلة، فهم على استعداد لدفع أية مبالغ من أجل ذلك الهدف، فهل تجدون من العدل أن نحرم أصحاب الحقوق المحتاجين لمرفق العدالة من أحد مبادئ حقّ التقاضي من أجل الحدّ من الفئة القليلة التي لا تملك الحقوق.
كما أن بالإمكان الحؤول دون زيادة الدعاوى الكيدية بتخصيص مكتب قانوني يبحث في احتمالية كسب الدعوى ومدى أحقية صاحبها، ويعدّ تقريراً بذلك، وذلك من شأنه تخفيف العبء الواقع على عاتق القضاء، والحد من العدد الكبير للقضايا لدى كل محكمة، والأهم وهو ما يهمنا هنا، التحقّق من الكيدية من العدم.
وعلى ضوء التقرير الذي سيعده المكتب السابق ذكره، وإذا ما ارتأى عدم جدية الإدعاء، هنا يفرض رسماً بعد إصرار صاحبه على رفع دعواه. وممّا لاشكّ فيه، أن مساهمة المواطن في الخدمة القضائية بفرض رسمٍ عليه إذا ما لجأ إلى استخدام حقه في التقاضي، لا ينبغي أن يتحوّل إلى أن يسدّد مقابل الخدمة القضائية، لأن حق التقاضي تكفله الدولة للأفراد، ولا يكفله الأفراد لأنفسهم، وذلك هو الفارق بين الدولة كشخص اعتباري عام يكفل لمواطنيه حقّ الاستفادة من الخدمات العامة، وبين الشركات الخاصة كشخص اعتباري خاص لا يهدف إلا لتحقيق المنفعة لنفسه فقط.
وعن نفسي أرى بأن المجانية في التقاضي هي في حقيقتها الوجه الآخر لدعم العدالة، وهذا أمرٌ واجبٌ على الدولة، أسوةً بالنظم والتشريعات التي تكفل تحقيق ذلك المبدأ، لأنه كما يقال «العدل أساس العمران»، أو بمفهوم مصطلحات عالم اليوم «العدل أساس التنمية المستدامة». ومن هنا فإن الوصول إلى العدالة، أي إلى الحق، لابد أن يكون مجانياً، وفى حالة عدم القدرة لابد أن يكون الوصول إلى العدالة مدعماً .
ختاماً، أرى بأن يُعاد النظر في إلغاء قانون الرسوم القضائية ليحل محله مبدأ مجانية التقاضي المعمول به في غالبية الأنظمة الحديثة التي تسير على تطبيق حقوق الإنسان، هذا مع الأخذ بإنشاء مكتب قانوني متخصّص خلافاً لمكاتب الباحثين القانونيين الموجودة يكون من بين اختصاصاته البحث والنظر بكيدية الدعوى من العدم، ويكون ذلك أساساً لفرض الرسم. أما إذا جاءت المحكمة بخلاف ذلك عندها يسترد صاحب الحق رسومه من خزينة الدولة، بينما تعود الدولة على خصمه الذي خسر دعواه بمبلغ الرسوم.
إعداد/ذة_نفيسة دعبل/محامية بحرينية