مهنة المحاماة والإصلاح
لقد تأكد من خلال التجارب السياسية التاريخية الدولية أن إنجاح عملية تطوير العدالة مرتبط أشد الارتباط بتعزيز استقلالية القضاء، وتعزيز موضوعية عمل القضاة، وتأمين المساواة أمام القضاء، وتعزيز ثقة المواطنين به، وتسهيل وصولهم إليه وضمان حقوقهم من خلال تحسين نوعية وجودة الحكم القضائي، ورفع كفاءة الجهاز البشري الداعم للعدالة، وبالتالي تعزيز الثقافة الحقوقية لدى المواطنين.
وعليه، فاستقلال القضاء هو الضامن الأساسي لقيام دولة الحق والقانون. وتعني كلمة “استقلال” القضاء انفصاله بشكل تام عن السلطتين التنفيذية والتشريعية وتمكينه من الارتقاء إلى سلطة بمقومات ذاتية تضمن حصانة فاعلين اثنين أساسين في هذا القطاع الحيوي وهما القاضي والمحامي وما يفرضه عليهم هذا الاستقلال من مسؤوليات تجاه المجتمع.
وعليه، سنحاول من خلال هذا المقال التركيز على نقطتين أساسيتين تتعلق الأولى بإبراز علاقة مهنة المحاماة بإصلاح القضاء، والثانية بالدور الذي يجب أن تلعبه هذه المهنة لتحقيق الأهداف والمرامي الإصلاحية.
1ـ علاقة مهنة المحاماة بإصلاح القضاء
في إطار الإصلاحات الضرورية لإنجاح عملية الانفتاح السياسي والاقتصادي زمن العولمة، أصبحت اليوم قضية إصلاح القضاء تتصدر سلم الأولويات لإحداث نقلة نوعية في السياق العام للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، ولإحداث دفع جدي في المساعي القائمة لتوطيد حكم القانون وتعزيز المسار الديمقراطي والمؤسساتي.
فإضافة إلى توفر الإرادة السياسية، تطوير القضاء بالمغرب لا يمكن أن يحقق مراميه إلا من خلال الاستمرار في دعم المجهودات الرامية إلى تحديث قوانين تنظيم القضاء، وتحديث قوانين إجراءات التقاضي والحرص على اختيار الأشخاص من خلال معايير مضبوطة، وضمان التأهيل الأولي والمستمر للموارد البشرية، وتحديث الهيكلة الإدارية أو إنشاء أجهزة إدارية جديدة، وضمان توفير أدوات التحديث خاصة مقومات تكنولوجيا المعلومات،…
ومن أهم الفاعلين بهذا القطاع كما سبق الذكر نجد القاضي والمحامي. القضاء والمحاماة لا غنى لأحدهما عن الآخر واستقلال كل منهما حماية أكيدة لحرية الإنسان وصونا لحقوقه وركيزة أساسية لحرية الوطن. في منطق الإصلاح على الكوني والتاريخي، تعني عبارة تحديث وتطوير إدارة العدالة كل ما من شأنه تسهيل سير العمل القضائي، وجعل القضاء في متناول جميع الناس ولا سيما الذين تعوزهم القدرة المالية، وتوطيد ركائز القضاء العادل. فإذا كان القاضي هو الواجهة التي تتركز عليها الأضواء في تقييم أداء القضاء، فإن المحامي يلعب دورا رئيسيا مؤثرا على أداءه وعلى نظام العمل القضائي بشكل عام بحيث يجوز القول أن عملية التطوير والتحديث تمر بالضرورة عبر الاعتناء بمهنة القضاء وبمهنة المحاماة على السواء.
ومن هذا المنطلق، وعلى هذا الأساس، فمهنة المحاماة تعتبر رافدا لا غنى عليه في عملية المساعي لتحقيق ارتقاء المنظومة القضائية. وتعتبر هذه المهنة من ضمن أهم المهن المرتبطة بالمجتمع. فإضافة إلى ضرورة إسهام رجالها في إصلاح هذا القطاع الحيوي وضمان تفعيله بشكل صحيح، فإن المحامي يعتبر المدافع الأساسي على المواطنين. إنها مهنة قديمة وتاريخية في حياة البشرية. لقد عرفت أوجها في عهد الرومان عندما سوى أحد ملوكها “أفطيموس” بين المحامين ورجال الجيش بما في ذلك الضباط الكبار. لقد اعتبرهم من أعلى القوم جاها وأرفعهم شأنا. وبالفعل، لم يخطئ هذا الملك في تقديره لتصنيف هذه المهنة في حياة المجتمعات. فإذا كانت الوجهة الوحيدة التي يتجه إليها المريض ويثق فيها هي الطبيب فإن الوجهة الوحيدة التي يلجأ إليها المظلوم هي المحامي. إنها مهنة الشرف والمواقف والأقوال المدافعة عن الحق والحرية على الصعيد الفردي والجماعي.
إنها مهنة عريقة شرعنت المجتمعات وجودها منذ القدم وتأسست على احترام العدل والقضاء وتعزيزهما والدفاع على تحقيق هدف إعلاء صوت الحق وتحقيق رسالة العدالة من خلال الدفاع عن الحقوق العامة والخاصة للإنسان. إن الفخر والاعتزاز بهذه المهنة مرتبط كذلك بدورها الطبيعي، كمهنة أو منظمات مستقلة بتقاليد وأخلاقيات راسخة، من أجل سيادة حكم القانون والمؤسسات وحماية حقوق الناس والحريات العامة تشريعا وتطبيقا.
2ـ دور مهنة المحاماة في تحقيق الأهداف والمرامي الإصلاحية.
إن أهمية مهنة المحاماة تتجلى في كون المحامي هو الطرف الذي يفترض أن يوفر في النزاع القائم مطالب واضحة مستندة إلى ركائز قانونية ومدعمة بالاجتهادات والمواد التي تشكل “الخيوط التي ينسج بها القاضي ثوب الحكم”. كما يشكل نظريا الجهة التي يلجأ إليها صاحب الحق للمطالبة بحقه ولو كان فقيرا. إن موقع هيئة المحامين في المنظومة القضائية جد مناسب للإسهام في إغناء النقاش بشأن إصلاح القضاء من خلال تنظيم اللقاءات والحوارات والندوات والمؤتمرات ومن تم استنتاج الملاحظات والتوصيات والخلاصات القابلة للتفعيل من خلال التركيز على المحاور التالية:
· تطوير الإجراءات القضائية في سبيل تسهيلها وتسريعها، وتعزيز وتطوير آليات المعونة القضائية، وضمان نجاعة التفتيش القضائي، وتسريع الفصل في القضايا (تقصير المهل)، وتأمين المعلومات القانونية للمواطن،…
· تعزيز استقلالية القضاء وفعاليته وتسريع أعماله لدعم ثقة المواطن بنفسه وبعدل الدولة: منع التدخلات السياسية في القضاء، وتحصين القاضي ماديا ومعنويا، وإنشاء جهاز مستقل عن السلطة لمراقبة ومحاسبة القضاء، وتعزيز كفاءة العاملين لدى السلطات القضائية، وتخصص القضاة، وتعزيز التعاون بين القضاء والمحامين،…
· توفير شروط الدعم لتحسين وضعية المحامي: التكوين في المعلوميات واللغات، وتفعيل حصانة المحامي وضمان حريته، وتفعيل دور نقابات المحامين، وتحديد وضمان أتعاب المحامي، وضمان حق الوصول إلى المعلومة، وتحسين علاقة المحامي بالقضاء وبالدولة، وفرض صيغ التعاقد القانونية بين الأطراف المتقاضية وهيئة الدفاع، ودعم الطابع الإنساني لمهنة المحاماة وضمان رسالتها في تحقيق العدالة، وتخفيض أسعار الكتب الحقوقية، وتخفيض تكلفة الانترنيت، وتسهيل شروط الاشتراك في بنوك المعلومات القانونية،…
· خلق منظومة معلوماتية وطنية مؤمنة للتواصل تنظم العلاقة بين القضاة، والإدارة القضائية، والمحامين، والمواطنين بشكل شفاف..
وفي إطار هذه المحاور الأربعة، يبقى المحامي فاعلا أساسيا في دعم عملية الإصلاح من خلال بذل الجهود، إلى جانب باقي الفاعلين، لتحقيق الأهداف والمرامي المرجوة الكفيلة بالرفع من جودة القضاء المغربي. وعليه، نعتبر تحقيق النقط التالية من واجبات أسرة المحامين للإسهام في رفع وثيرة تنفيذ الخطة الوطنية للإصلاح:
· المساهمة في حشد طاقات الجماهير في سبيل تحقيق الوعي السياسي، وتطوير الفكر القانوني، وتطوير التشريع في البلاد ومن تم المحافظة على فعالية المهنة. وهنا لا يفوتني أن أذكر بالدور الحيوي لرواد هذه المهنة في تطوير المشهد السياسي المغربي.
· الإسهام في تيسير سبل العدالة أمام المتقاضين من خلال تبسيط إجراءات التقاضي وتيسير الوصول إلى العدالة بدون موانع مادية أو تعقيدات إدارية.
· المساهمة مع السلطة القضائية في حسن سير العدالة لوحدة الهدف وللارتباط الوثيق بينهما.
· المساهمة في اقتراح الإجراءات والآليات الضرورية لتطوير البنية التشريعية القضائية والإدارية والمالية بالتنسيق مع الجهات المختصة.
· الحرص على ضبط عملية التبليغات ومواعيد الجلسات والدقة في انعقادها لتوطيد العلاقة بين المحامي والقاضي والمواطن (بواسطة المراسلات الكتابية والإلكترونية).
· الحرص على تطبيق الإجراءات المتعلقة بالإسراع في عملية تنفيذ الأحكام ومن تم استرجاع الثقة في القضاء.
· خلق منظومة للتكوين والتكوين المستمر خاصة في مجال المعلوميات واللغات للاستفادة من بنوك المعلومات القانونية الدولية ومن المراجع الحقوقية الصادرة في الدول المتقدمة خصوصا ما يتعلق بقوانين التجارة الدولية، وحقوق الإنسان، والمؤسسات الدولية القانونية،… وبالتالي تعزيز قدرات المحامي وارتقاء ممارسته للمهنة إلى المستوى الذي تنشده متطلبات الانفتاح على الاقتصاد الدولي بتعقيداته القانونية.
· تنشيط البحث العلمي والقانوني، وتشجيع القائمين به، وإغناء المكتبات القانونية الوطنية في مختلف المستويات الترابية من خلال إصدار المجلات والنشرات العلمية والقيام بالبحوث والدراسات لخلق التراكم المعرفي في هذا الميدان.
· التنسيق مع الجامعات والمعاهد العليا لرفع مستوى مناهج الدراسة وتطويرها بما يكفل كفاءة المحامين والحقوقيين وربط التعليم بالحياة نظريا وتطبيقيا خصوصا في مجالات الفقه والقانون والقضاء.
· دعم التعاون مع المنظمات الحقوقية ونقابات المحامين الدولية من أجل تبادل الخبرات والمعلومات والتجارب.
· تنظيم إلزامية تقديم المعونة القضائية والاستشارات القانونية لغير القادرين لجعل المساواة أمام القانون حق للجميع (حق التقاضي أمر جوهري ولا يمكن للضائقة المالية أن تعيق المطالبة بالحقوق).
· دعم المجهودات الرامية إلى الرفع من فعالية التفتيش القضائي لضمان جودة المحاكمات ومن تم شرعنة الكفاءة في مهنة المحاماة.
· تطوير الآليات الضرورية القانونية والتنظيمية لعقلنة تنظيم العلاقات بين المحامين فيما بينهم وعلاقتهم بالغير خاصة بالمواطنين بشكل يقلل من حدة المشاكل الناتجة عن ممارسة المهنة (تحديث وتطوير القوانين المنظمة للمهنة).
· دعم الإطار المسؤول على تحسين آليات الإشراف والرقابة على مدى الالتزام بأخلاقيات وقواعد وآداب المهنة وبأحكام القانون (الحفاظ على سيادة الشرف، والاستقامة، والنزاهة، والأخلاق، واللياقة، والاستقلال).
ونختم هذا المقال بما اعتبره الفلاسفة خير تعريف للعدل على مر التاريخ وهو ما وضعه الإمبراطور الروماني جسستنيان في مدونته بقوله “العدل هو حمل النفس على إيتاء كل ذي حق حقه والتزام ذلك على وجه الدوام والاستمرار”. ولتحقيق هذا الهدف النبيل يبقى المحامي فاعلا محوريا ماثلا على الدوام في ذهن أعضاء الجسم الاجتماعي، يذكرهم بحقوقهم وواجباتهم من خلال القضايا والمشاكل التي يتعرضون إليها في حياتهم الاجتماعية. إنه في صلب المعركة الدائمة لحفظ حقوق الإنسان الطبيعية غير القابلة للتقادم والتي نذكر منها على الخصوص الحرية، والملكية، والأمن، ومقاومة الطغيان والظلم، والمساواة،…