أثر الغلط على المسؤولية الجنائية


                   أثر الغلط على المسؤولية الجنائية

 

بفعل التقدم الحضاري والاقتصادي يعيش العالم اليوم ثورة علمية شملت معظم مجالات الحياة. ومن أجل نجاح هذه الثورة العلمية وتحقيق أغراضها النبيلة تدخلت التشريعات بتجريم مجموعة من الأفعال سواءا الإيجابية أو السلبية منها .

وعليه، إذا كانت هذه الثورة العلمية قد شملت جميع مناحي الحياة المختلفة فإن التشريع بدوره عرف مواكبة لهذه الثورة. إلا أنه بالنظر إلى التعديل المستمر الذي تعرفه مجموعة من القوانين لكي تتماشى و مستجدات الحياة اليومية، أصبح الشخص لا يستطيع مواكبة هذه التعديلات في كل مجال .

و في هذا الإطار، و باعتبار المسؤولية الجنائية أهلية الشخص لأن يتحمل جزاء عقابي نتيجة ارتكاب فعل نهى القانون عنه أو ترك ما أمر به، وهذه الأهلية تشمل العوامل النفسية اللازم توافرها في الشخص. لهذا قد يرتكب الشخص وهو متمتع بكامل قواه العقلية، تحت تأثير من الجهل أو الغلط، سلوكا يجرمه المشرع الجنائي ويعاقب عليه. وهذا الجهل أو الغلط قد ينصب على الوقائعالتي تتكون منها الجريمة ويسمى هذا النوع بالغلط المادي. و قد ينصب على نص التجريم الذي يضفي على السلوك الصفة غير المشروعة ويسمى هذا النوع بالغلط القانوني. ومن ثم يثور التساؤل هل يجوز لهذا الشخص أن يتمسك بهذا الجهل أو الغلط لنفي المسؤولية الجنائية عن الجريمة المرتكبة ؟

و في ضوء ما تقدم، إلى أي حد يمكن الاعتداد بأثر الغلط على المسؤولية الجنائية في ظل وجود قاعدة قانونية عتيقة تذهب إلى أنه لا يجوز لأحد أن يعتذر بجهله بالقانون الجنائي على اعتبار أن العلم به يفترض في حق الكافة افتراضا غير قابل لإثبات العكس.

وبتعبير آخر، يثير الغلط في القانون إشكالا في التطبيق لاصطدامه بقاعدة لا يسوغ لأحد أن يعتذر بجهله التشريع الجنائي( المادة 2 من القانون الجنائي) فهل يعتبر العلم أو إدراك القانون عنصرا في القصد أو خارجا عنه؟ هل كل التشريعات قامت بالاعتداد بالغلط المادي و بالغلط في القانون؟ وإذا كان الأمر مخالفا فما هي تبريرات كل اتجاه لتأييد أو تفنيد هذا الاعتداد؟ وهل ينحصر تطبيق افتراض العلم بالقانون في النطاق الجنائي أم يشمل المقتضيات غير الجنائية أيضا؟

و على الرغم من البساطة الواضحة لهذه التساؤلات ، إلا أنها جديرة بالمناقشة. ولعل مناقشة هذه الأفكار ستؤثر في ضمان مبدأ أن الأصل في الإنسان البراءة و حسن إدارة العدالة الجنائية و ستحد من الاعتداء على حريات الأشخاص.

لهذا فإننا سنعمل على معالجة هذا الموضوع من خلال تقسيمه إلى مبحثين رئيسيين: سنعالج في المبحث الأول ماهية الغلط المادي و القانوني، على أننا سنحاول في المبحث الثاني إبراز أثر الغلط المادي والقانوني على المسؤولية الجنائية.

المبحث الأول: الغلط المادي و الغلط في القانون

يمكن التمييز هنا بين نوعين من الغلط: فهناك الغلط المادي أو الغلط في الواقع (المطلب الأول) والغلط القانوني (المطلب الثاني).

المطلب الأول: الغلط المادي

يكون الفاعل في غلط مادي إذا لم يعلم حقيقة الفعل المادي الذي يقدم عليه, وهذا النوع من الغلط يفضي إلى تخلف الركن المعنوي للجريمة, ولتحقق القصد الجنائي لا يكفي أن يكون الجاني موجها إرادته نحو تحقيق النشاط الجرمي, إنما بالإضافة إلى ذلك يجب أن يكون عالما بكل عناصر الجريمة من حيث الواقع والقانون . ومعنى ذلك أن القصد الجنائي لدى الجاني ينتفي إذا وجه إرادته نحو تحقيق الواقعة المكونة للجريمة ولكن عن جهل أو غلط في أحد عناصرها سواء من الناحية الواقعية
أو القانونية.

في هذا الصدد تجدر الإشارة إلى أن تعبير الغلط يشمل الجهل أيضا ، مما جعل الفقه يأخذ بتعبير الغلط للدلالة على الأمرين معا، إلا أنه يختلفان في الطبيعة بحيث إذا كان الغلط حالة ايجابية تتمثل في تصور غير صحيح فإن الجهل حالة نفسية سلبية تنحصر في انتفاء العلم بموضوع معين.

على كل سوف نتحدث في الفقرة الأولى عن العلم بالواقع على أن نخصص الفقرة الثانية للحديث عن الغلط في الواقع.

الفقرة الأولى: العلم بالواقع

يراد بالعلم كعنصر في القصد الجنائي حالة ذهنية معينة يكون عليها الجاني وقت ارتكاب الجريمة, والعلم لا يتوافر إلا بالإحاطة بالعناصر الأساسية اللازمة لقيام الجريمة قانونا.

فالجاني يجب أن يعلم بكل الوقائع الجوهرية التي تكون ماديات الجريمة, أو تؤثر في وصفها القانوني, فإذا كان يجهل أحدها, فإن ذلك يمنع من توافر القصد الجنائي لديه. فمثلا في السرقة يلزم أن يحاط علم الفاعل بأن الأشياء التي استولى عليها تخص غيره. أما إذا كان يجهل ذلك ويعتقد لأسباب مقبولة أنها قد آلت إلية بالهبة أو الميراث, فإنه لا تكون هناك جريمة. و نجد في أحد قرارات المجلس الأعلى بالنسبة لجريمة السرقة “لا يشترط فيها توافر القصد الخاص في ثبوتها و إنما تتم بمجرد وضع اليد على الشيء بنية التملك والحيازة والحق في التصرف فيها تصرفا مطلقا”.

أما الوقائع الأخرى الثانوية, فرغم أنه من المفروض أيضا إحاطة علم الجاني بها, إلا أنه لا يشترط لتوافر القصد أن يتحقق ذلك. حيث أنه ليس لها تأثير على قيام المسؤولية الجنائية وفقا للتعريف القانوني. فمثلا في القتل العمد قد يطلق شخص النار على شخص ولكنه يخطئه ويصيب آخر, فإن ذلك لا يؤثر على توافر القصد الجنائي, حيث أن شخصية المجني عليه ليست من العناصر الجوهرية في هذه الجريمة.

وعدم علم الجاني بالوقائع قد يكون مرجعه الجهل بها أي عدم توقعه لها أو الغلط فيها, أي أنه يتصورها على غير حقيقتها, وهذا ما سنناقشه في الفقرة الثانية.

الفقرة الثانية : الغلط في الواقع

إن مشكل العلم في القصد الجنائي لا يثور بوضوح إلا حين يشوب العناصر الأساسية للجريمة جهل أو غلطأو شك . والتساؤل المطروح هنا هو حول الفرق بين كل من الجهل أو الغلط والشك وكذا تمييزه عن الخطأ ؟

الواقع أن المقصود بالجهل بالواقع يتمثل في انتفاء أو عدم العلم به أي أن الجاهل به لا تتوافر عنده أية صورة إدراكية بحيث يخلو ذهنه منه نهائيا. في حين نرى أن مفهوم الغلط إنما يتمثل في العلم بالواقعة على نحو يخالف الحقيقة, لهذا فإن الجهل يمثل الوضع السلبي في حين يمثل الغلط الوضع الإيجابي.
ومما تجدر الإشارة إليه أن تعبير الغلط يشتمل على الجهل أيضاً.

والمشرع الفرنسي يستعمل كلمة الغلط erreur للدلالة على الجهل و الغلط في آن واحد. فالجهل والغلط ينفيان العلم بحقيقة الواقعة, مثلا من يطلق الرصاص وهو يجهل وجود شخص في اتجاه الرصاص فيقتله فإن قصد الجاني لا يعد متوافرا.

لهذا إذا نظرنا إلى الحقيقة بشكل عام أي إلى جميع الوقائع التي أتى الجاني فيها فعله, فالجهل بالواقعة إنما هو غلط في مجموعة الوقائع التي اقترنت بالفعل, والغلط في الواقعة إنما هو جهل بحقيقتها التي يتطلب القانون العلم بها. فرغم اختلافهما فإنهما يشتركان في أمر هام وهو أن كليهما يقيم في ذهن الجاني تصورا مغلوطا عن الواقع على نحو ينتفي فيه في الحالتين العلم بحقيقة الواقعة الإجرامية, وبالتالي يترتب على هذا القول أن حكم الجهل في نظر القانون كحكم الغلط يعني يترتب عنهما نفس الآثار.

أما الشك وإن كان في ظاهره قريبا من الغلط, إلا انه يختلف عنه في طبيعته وكذلك في حكمه. فالغلط كما ذكرنا هو جهل بواقعة معينة وتخيل واقعة بديلة لا تطابق الواقع, فهو ينطوي على واقعتين إحداهما محل للجهل و الأخرى محل للعلم. أما الشك فينصب على واقعة واحدة يتجاذبها في نفس الوقت كل من العلم و الجهل, فهي صورة مهتزة للواقع في ذهن الفاعل تحتمل الوجود وعدمه, كالشخص الذي يجد عدوه ملقا على الأرض ولا يعلم إذا كان حيا أم ميتا فقام بإطلاق الرصاص عليه ثم تبين أن عدوه كان حيا وأن الرصاصة هي التي قضت عليه, فالفعل قتل والقصد قائم . وليس للجاني أن يتضرع بأنه وقت إطلاق النار كان في شك من أمره, لأن الشك ليس جهلا ولا غلطا ولكنه علم غير أكيد ورغم ذلك فهذا القدر من العلم كاف لقيام القصد .

أما الخطأ فهو عدم توافر الصورة الإدراكية في ذهن الشخص عن الشيء, أي جهله به, أو توافرها لديه ولكنها لم تكن متطابقة مع حقيقته الواقعية مما جعل إدراكه زائفا أو وقوعه في الغلط, فصورة الخطأ غير العمدي يكون بإهمال الفاعل أو عدم يقظته, بحيث كان بإمكانه تفادي الوقوع فيه لو أنه تذرع بالحيطة والحذر اللازمين لذلك, كمن يطلق النار على شبح معتقدا أنه حيوان فيظهر بعد ذلك أنه إنسان ، هنا يسأل الشخص عن جريمة قتل غير عمدية.

ويبقى أثر الغلط محدودا بالواقعة التي انصب عليها, ولذلك لا يحول دون توافر القصد الجنائي بالنسبة للوقائع التي لم يتعلق بها. كما أنه لا ينفي المسؤولية بكل أنواعها, إذ أنه لا ينفي مبدئيا سوى المسؤولية القصدية.

ويتعين التمييز بين الوقائع الجوهرية التي يترتب على الجهل بها أو الغلط فيها انتفاء القصد الجنائي, والوقائع غير الجوهرية التي لا يرتب الجهل أو الغلط فيها هذا الأثر. في هذا السياق، سنحاول أن نميز بين الغلط الجوهري والغلط غير الجوهري (أولا) و بين الغلط في فعل مقصود و في فعل غير مقصود( ثانيا).


أولا : التمييز بين الغلط الجوهري والغلط غير الجوهري

إن التمييز بين كل من الغلط الجوهري والغلط غير الجوهري إنما يتمثل في أهمية الواقعة التي انصب عليها هذا الغلط.

فإذا انصب الغلط على واقعة معينة تعد ظرفا مشددا من شأنها تغيير وصف الجريمة أو في حالة الغلط في محل أو موضوع الحق المعتدى عليه فإن هذا الغلط يعتبر غلطا جوهريا, مثال ذلك الطبيب الذي يعتقد أنه يقوم بتشريح جثة ميت وعندما بدأ بالتشريح تبين له أن صاحب الجثة مازال حيا, وأن الوفاة حدثت بفعل التشريح.

أما إذا كان المحل شرطا موضوعيا للعقاب أو عنصرا من عناصر المسؤولية الجنائية, أو ظرفا مشددا لا يغير من وصف الجريمة كالخادم الذي يسرق مال مخدومه ظنا منه أنه مملوك للغير, هنا الظرف المشدد لا يغير من وصف الجريمة, ومن ثم فإن الغلط يكون غير جوهري.

مجمل القول إن الغلط الجوهري يترتب عليه انتفاء القصد الجنائي في حين لا يترتب هذا الأثر في حالة الغلط غير الجوهري.

إن الغلط قد يقع في فعل مقصود كما قد يقع في فعل غير مقصود وهو ما سنحاول التطرق له.

ثانيا: الغلط في فعل مقصود

الغلط المادي الحاصل في فعل مقصود, يكون جوهريا بوقوعه على حقيقة الفعل المادي أو العنصر المفترض في الجريمة أو الظروف المغيرة للوصف أو التكييف القانوني لبعض الوقائع الخاضعة لنصوص غير جنائية.

ومثال الغلط في حقيقة الفعل المادي, أن يتصور الصياد وجود طائر في الغابة فيطلق النار عليه, ثم يتبين لاحقا أنه قتل إنسانا متواريا فيها, هنا لا يقوم القصد لديه لأنه وقع في غلط مادي ينصب على حقيقة الفعل الذي أقدم عليه. هذا ولا يعد من قبيل الغلط الجوهري ذلك الواقع على شخص المجني عليه. وبالتالي ينتفي القصد لديه ولا يسأل عن جريمة مقصودة وإنما يسأل عن جريمة خطأ, لأن الخطأ هو الذي يشكل الركن المعنوي في هذه الجريمة.

ثالثا :الغلط في فعل غير مقصود

القاعدة أن الغلط الواقع على فعل مؤلف لجريمة غير مقصودة, لا يكون مانعا للمسؤولية إلا إذا لم ينتج عن خطأ الفاعل نفسه بل عن خطأ شخص غيره. ومثال ذلك أن يذهب شخص للصيد في الغابة فيلحق به رفاقه ويرغبون في ممازحته فيتنكر أحدهم في شكل وحش فيقدم على قتله خطأ. في مثال هذه الحالة لا تقوم مسؤولية الصياد القصدية لأن غلطه نشأ عن خطأ غيره, شرط أن يثبت أن غلطه يمكن أن يقع فيه أي شخص مهما كان حذرا .

أما إذا كان الغلط الواقع على فعل غير مقصود ناتج عن خطأ الفاعل نفسه, فإنه لا يعفى من المسؤولية بحجة هذا الغلط. والسبب في ذلك هو أن المعاقبة على الجريمة غير المقصودة قائمة أصلا على مجرد الخطأ أو الغلط, لذلك يتعين أن يعاقب الشخص بمجرد ارتكابه خطأ في جريمة غير مقصودة ولو برهن أنه كان ضحية غلط بالفعل.فلو أعطى الصيدلي بالغلط للمريض سما وهو يظن أنه الدواء الموصوف فمات المريض, يكون الصيدلي مسؤولا عن التسبب بوفاة المريض ولا يجديه نفعا أنه وقع في غلط.

المطلب الثاني: الغلط في القانون

للغلط في القانون آثارا هامة على المسؤولية الجنائية ، ولكن نتساءل ما هو مفهوم الغلط في القانون ؟ (الفقرة الأولى ) و ما هي النظريات التي قيلت في تأثير الغلط على القصد الجنائي (الفقرة الثانية) والنظريات التي قيلت في عدم تأثير الغلط على القصد الجنائي (الفقرة الثالثة ) وتأثير هذا الغلط على التكوين الطبيعي للإرادة (الفقرة الرابعة).


الفقرة الأولى: مفهوم الغلط في القانون

الغلط في القانون هو فهم القانون على نحو مخالف لما ينبغي أن يؤول ويفهم به، أما الجهل بالقانون فيقصد به ألا يعلم الجاني مقدما أن القانون يجرم الوضع الذي أدن إليه نشاطه . لكن هذا التمييز لا يؤثر على النتائج المترتبة التي تكون هي نفسها في كلتا الحالتين لذالك فإن الراجح من الفقه يذهب إلى اعتبارهما مترادفين في محيط دراسة الركن المعنوي

الجهل بالقانون يعني أن الفاعل لا يعلم بأحكام القانون ، وأن الفعل الذي ارتكبه جريمة لا يعاقب عليها أي أن الجهل بالقانون هو أن يكون الفاعل جاهلا ،قبل إقدامه أو عند إقدامه على ارتكاب نشاط معين، بأن القانون يجرم هذا النشاط إيجابيا أم سلبيا.

إن تقرير هذه القاعدة، أي الغلط في القانون، من الأمور الضرورية لتطبيق قواعد القانون الجنائي واستقرار أحكامه ، لان الغالبية من الناس لا يتاح لهم الاطلاع على حقائق القانون على وجهها الصحيح .

ولتحديد الصلة بين الغلط في القانون و المسؤولية الجنائية يلزم بيان الاتجاهات التي تناولت هدا التحديد ؛ اتجاه يرى أن الغلط في القانون يؤثر على القصد الجنائي و اتجاه آخر يرى عدم تأثير الغلط في القانون على عناصر القصد الجنائي أما الاتجاه الثالث فيرى أن هناك تأثير الغلط في القانون على التكوين الطبيعي للإرادة.

الفقرة الثانية : النظريات القائلة بتأثير الغلط في القانون على القصد الجنائي

يرى أنصار هذا الاتجاه أن الجريمة تقوم على ثلاثة أركان، وهي الركن المادي والركن المعنوي والركن القانوني المتمثل في الصفة غير المشروعة للفعل الجرمي، ومن هنا فالغلط في القانون يؤثر على القصد الجنائي, وان كانوا قد انقسموا إلى نظريات ، فمنهم من اعتبر العلم بالصفة الإجرامية للفعل يعد عنصرا جوهريا من عناصر القصد الجنائي (نظرية العلم المطلق)، و منهم من جعل العلم بالصفة الإجرامية والعلم بالقانون عنصران جوهريان من عناصر القصد الجنائي (نظرية العلم المقيد) لنجد في الأخير من يفترض العلم بالقانون شرطا لا غنى عنه لقيام القصد الجنائي
(نظرية افتراض العلم بالقانون).

1_ نظرية العلم المطلق : يرى أصحاب هذه النظرية أن العلم بالصفة الإجرامية للفعل الإجرامي يعد عنصرا جوهريا من عناصر القصد الجنائي. فمذهبهم مطلق حيث يطبق هذا المذهب على جميع الجرائم القصدية ، فهي تتطلب العلم اليقيني ، بحيث لا مجال لافتراض العلم، كما انه لا يكفي توفر العلم في وقت غير وقت ارتكاب الجاني للسلوك الإجرامي ، فهي تساوي بين العلم بالوقائع والعلم بالقانون ، إذ كلا منهما يشكل متطلبا لتوافر القصد الجنائي .

ويدعم هذا الفريق نظريته في تحديد معنى القصد الجنائي بأنه “إرادة الاعتداء على الحق الذي يحميه القانون ” وهذا ما يتطلبه العلم بأحكام القانون التي تحمي الحق أو المصلحة المحمية ، فمثلا إذا كان الذي ارتكب السلوك الإجرامي يجهل الصفة الإجرامية للفعل الذي ارتكبه فحينئذ ينتفي القصد الجنائي لديه ، فإذا كان جهل الجاني غير قائم على خطأ أو بمعنى آخر لم يكن في استطاعته العلم بالصفة الإجرامية لفعله الذي ارتكبه فحينئذ ينتفي عنه القصد الجنائي.

لكن يؤخذ على هذه النظرية أنها تتجاهل مصلحة المجتمع وتهمل الاعتبارات العملية التي تقتضي كفالة أحكام القانون ، كما أنها تقود إلى نتائج يصعب التسليم بها وهي تبرئ المتهم في الحالات التي يثبت فيها جهله بالقانون, ومن ثم تعجز سلطة الاتهام (النيابة العامة) عن إقامة الدليل على علمه. ولهذا حاولت الإصلاح من عيوبها ، ورأت بأن الجاني يسأل عن الجريمة غير القصدية إذا تخلف العلم بالقانون لديه وثبت في نفس الوقت إمكان هذا العلم
ولكن عيب عنها أن هذا القول لا يصدق إلا في حالات نادرة وهي الحالات التي يعاقب فيها القانون على الجريمة سواء أكانت الجريمة مقصودة أو غير مقصودة.

2 _ نظرية العلم المقيد: ترى هذه النظرية أن العلم بالصفة الإجرامية والعلم بالقانون يعتبران عنصران جوهريان من عناصر القصد الجنائي، ومن ثم ترى هذه النظرية بان القصد الجنائي ينتفي إذا تخلف العلم بالقانون.

على كل، تساوي هذه النظرية بين إمكان العلم بالقانون والعلم الفعلي به، وبالتالي فالفرق بين هذه النظرية ونظرية العلم المطلق هو كون هذه الأخيرة ينتفي بها القصد الجنائي ومساءلة الجاني عن الجريمة غير القصدية في حالة انتفاء العلم وثبوت إمكانية العلم به، بخلاف نظرية العلم المقيد التي ترى توفر القصد الجنائي.

ويستند أنصار هذه النظرية على عدة حجج أهمها، أن الأصل هو توافر العلم بالصفة الإجرامية وذلك نتيجة حتمية تستخلص من فكرة القصد الاحتمالي، ولكن الجهل بالصفة الإجرامية لا ينفي القصد الجنائي، إذا كان القانون لا يقر مثل هذا الجهل.

ولكن عيب على هذه النظرية أنها تقيم فكرة القصد الاحتمالي على أركان لا تتفق مع طبيعتها ، لأن انتفاء العلم مع ثبوت استطاعته وما ألزم القانون به أمر لا يتفق وطبيعة القصد الجنائي الذي يفترض إرادة واعية ، هذا فضلا على إقامة القصد الجنائي على أفكار مستمدة من الخطأ غير القصدي مما يؤدي إلى الخلط بينهما.

ونظرا للانتقادات التي وجهت لهذه النظرية، فإنها حاولت إصلاح عيوبها للقول بأن الجاني في وضع يماثل وضع من توافر لديه القصد الجنائي في حالة انتفاء العلم لديه مع استطاعته العلم به.

3 _ نظرية افتراض العلم بالقانون : إن القصد الجنائي هو إرادة مخالفة للقانون ، لهذا فإن العلم بالقانون وبالصفة الإجرامية التي يسبغها على الفعل يعد شرطا لا غنى عنه لتصور هذه الإرادة ، و إذا كان هذا القول سيترتب عليه الأضرار بالمصلحة العامة لأنه سيؤدي إلى التضييق من الحالات التي يتوافر عنها القصد الجنائي ، فإنه لابد من توافر العلم بالقانون ضمن عناصر القصد الجنائي ، إلا أنه لا يشترط العلم الفعلي بل العلم الافتراضي ولهذا فسلطة الاتهام لا تلزم بإثبات توافر هذا العلم، لأنه يفترض تحقق هذا العلم بمجرد نشره حسب ما نص عليه المشرع.

ومن ثم فعلم الكافة بأحكام القانون الجنائي مفترض قانونا لا يقبل إثبات العكس سواءا وردت أحكام هذا القانون بين نصوص العقوبات أو في قوانين أخرى مكملة ، اذ كما يقال ” لا يعذر احد بالجهل بالقانون ” ، ومفاد هذا المبدأ المقول به يقتصر على نطاق ضيق وهو القاعدة الجنائية دون أن يمدد إلى باقي القواعد الأخرى كالتجاري والإداري ، ولكن ما هي مبررات افتراض العلم بالقانون ) أولا( , وماهي الانتقادات الموجهة لهذه النظرية (تانيا).

أولا : مبررات افتراض العلم بالقانون

أ_ يقوم افتراض العلم بالقانون على جعل الوضع الغالب قاعدة عامة أي أن نفاذ الإرادة المشتركة لا يجوز أن يتوقف على إرادة وإهمال الأفراد.

ب_ معظم حالات التجريم من الأفعال المستهجنة من الناحية الأخلاقية و متناقضة مع الضمير، وبالتالي من السهل الوقوف على حقيقة حكم القانون بواسطة التحري والاستعلام.

ج _ افتراض العلم بالقانون يجعل القصد الجنائي متوافرا حتى ولو لم يتوفر العلم اليقيني بنص التجريم و العقاب.

ثانيا : الانتقادات الموجهة لنظرية إفتراض العلم بالقانون

تعرضت هذه النظرية لعدة انتقادات نذكر منها :

أ _ أن الأساس الذي ارتكزت عليه يعد نظريا محضا يقوم على المجاز والافتراض، مما يخالف مقتضيات العدالة القائمة على الحقيقة.

ب_ قبول هذه النظرية ينتج عنه عدم تطور الفكر الحديث في نظرته إلى الفرد وإلى حرياته وحقوقه ،بل وإنسانيته في مواجهة الدولة.

ت_ إن الإحساس بعدم عدالة هذه القاعدة أدى بالتشريعات إلى إيراد استثناءات عليها بسبب ان عدم الأخذ بهذه الاستثناءات يعتبر مجافاة لروح العدالة التي ينشدها القانون، فإذا كانت هناك جرائم طبيعية يتعارف الناس عادة أنها كذلك حتى ولو لم يطلعوا على قانون بشأنها كالقتل والسرقة وغيرها، فهناك جرائم آخرى مصطنعة نص عليها القانون ، بحيث لا تشكل في نظر الجاني إثما لوجوده في ظروف يستحيل معها العلم بالقانون ، وهذه الاستثناءات سنتطرق لها في حديثنا عن أسباب انتفاء المسؤولية الجنائية .

الفقرة الثالثة : النظريات القائلة بعدم تأثير الغلط في القانون على عناصر القصد الجنائي

يرى هذا الاتجاه الفقهي أن الجريمة تقوم على ركنين فقط وهما الركن المادي والركن المعنوي. وبالتالي فهو يستبعد الركن القانوني المتمثل في عدم مشروعية الفعل الذي لا يعدو أن يكون وصفا للواقعة ، فالوصف لا يعد من عناصر تلك الواقعة. ويدعم هذا الرأي قوله بأنه سيؤدي لتفادي الخطأ الذي وقع فيه الذين اعتبروا الركن القانوني ركنا ثالثا في التجريم لأن هذا القول سيؤدي إلى فكرة مفادها وجوب توفر العلم بتجريم الفعل لكي يتوفر القصد الجنائي ، ولهذا فالقصد يشمل عناصر الجريمة ، وبالتالي فقصور العلم بنص التجريم لا يؤثر على العقوبة ولهذا برزت عدة نظريات نادت باستبعاد العلم بنص التجريم من عناصر القصد الجنائي ومن أهمها :

1 _ نظرية الخطيئة : يرى أنصار هذه النظرية تفادي الانتقادات الموجهة إلى كل من نظرية العلم المطلق والعلم المقيد ، إذ يسلمون أن طبيعة القصد الجنائي تأبى أن تكون استطاعة العلم بالصفة الإجرامية من بين عناصره ، وبناءا على ذلك فعناصر القصد الجنائي تقتصر على العلم بالوقائع واتجاه الإرادة إليها. كما أنهم يسلمون من جهة أخرى بأن نطاق المسؤولية الجنائية يقتصر على الحالات التي يثبت فيها العلم اليقيني بالصفة الإجرامية . ولقد ساوى أنصار هذه النظرية بين العلم الفعلي بالقانون واستطاعة العلم به، لهذا فإن أنصار هذه النظرية إنما يرون أن المكان الصحيح للعلم بالقانون ، ومن ثم العلم بالصفة الإجرامية للسلوك ليس هو القصد الجنائي وإنما الركن المعنوي فقط، أي يعد عنصرا على سبيل المثال من العناصر المكونة للركن المعنوي للجريمة المقصودة .

ولكن وجهت انتقادات عديدة لهذه النظرية ، و من بين الانتقادات تجريد فكرة القصد الجنائي من مدلولها القانوني ، وتحويلها إلى فكرة غريبة عن القانون ، لأن القصد الجنائي لا يستمد أهميته القانونية من مجرد انطوائه على العلم بوقائع معينة إضافة إلى الإرادة المتجهة إلى هذه الوقائع ، إنما القصد يفترض العلم بالدلالة القانونية لهذه الوقائع وإرادتها ،

ويأخذ على هذه النظرية أيضا، اعتبار العلم بالقانون عنصرا قائما بذاته من عناصر الركن المعنوي بحيث يكون موضع العلم القانوني غير محدد تحديدا كافيا، وذلك لأن الركن المعنوي إنما يتمثل في الإرادة التي اتجهت اتجاها مخالفا للقانون .

2 _ نظرية العلم بدلالة الفعل : يذهب أنصار هذه النظرية إلى أن علم الجاني بتجريم القانون لفعله أمر لا تتطلبه فكرة القصد الجنائي ، ولا يقتصر القصد على العلم بالوقائع وإرادتها ، وإنما يستمد أيضا علما بدلالة خاصة تتوافر للفعل وإرادة متجهة إلى أن تكون للفعل هذه الدلالة ، واختلف أنصار هذه النظرية في تحديد المقصود بهذه الدلالة .

أ/ لقد دهب “ليست ” أن القصد الجنائي لا يعد متوافرا إلا إذا علم الجاني أن من شأن فعله أن يمس مصلحة من المصالح المحمية جنائيا دون أن يعني بذلك وجوب علمه بتجريم الفعل.

ب/ أما الفقيه “فرنك ” فيرى أن القصد الجنائي يتطلب أن يكون الفعل الذي ارتكبه المتهم مناقضا لقواعد الآداب أي كونه ضار بالمجتمع ، حيث لا يتطلب القصد الجنائي العلم بالصفة الإجرامية غير المشروعة للفعل في نظر القانون ، ويرى أن العلم الفعلي لا تتطلبه فكرة القصد الجنائي بل من الواجب أن يحصل المتهم على هذا العلم .

ويرى محمود نجيب حسني أنه يجب عدم التسليم بهذه النظرية لأنها تؤدي إلى تضييق الحماية المقررة لمصلحة المجتمع حيث تشترط توافر العلم بدلالة الفعل من حيث نظرة المجتمع .

إذا كانت هذه النظريات السالفة الذكر تجعل الغلط في القانون يؤثرعلى عناصر القصد الجنائي فهل يؤثر على التكوين الطبيعي للإرادة.

الفقرة الرابعة: النظريات القائلة بتأثير الغلط في القانون على التكوين الطبيعي للإرادة

يذهب أنصار هذا الرأي إلى اعتناق أفكار النظرية المعيارية التي فسرت الإثم الذي هو جوهر الركن المعنوي للجريمة أنه حكم يصدر على مسلك الفاعل ، بحيث يمكن القول بخضوعه للوم القانون نتيجة مخالفته للواجب الذي تفرضه القاعدة القانونية التي يخضعها نص التجريم ، مما يتطلب إضافة للتحقق من توافر الرابطة النفسية بين الفاعل والواقعة الإجرامية في صورة القصد أو الخطأ ، والبحث في الظروف التي ارتكب الجاني سلوكه في ظلها ، وتكونت إرادته تحث تأثيرها.

وبالتالي يرى أنصار هذا الرأي أنه إذا أثرث الظروف التي تكونت فيها إرادة مرتكب السلوك في الإرادة فضللتها و جعلتها لا تدرك ماهية هذا السلوك وحكم القانون بالنسبة له، فإنه لا يعتد بها .

كما أن أنصار هذه النظرية يفسرون قاعدة عدم جواز الاعتداد بالغلط في القانون بأنها تعد إخلالا بالواجب المفروض على كل فرد في أن يعلم بالقانون وأن يفهم المقصود من نصوصه . كما يفسرون أن امتناع المسؤولية بسبب الغلط الحتمي في العلم بالقانون تقوم بسبب تخلف التكوين الطبيعي للإرادة ، لأن الفاعل بسبب هذا الغلط قد لا يستطيع تكوين إرادة واعية بحيث يمكن القول أنه قد أراد عصيان القانون.

وخلاصة القول، إن هذا الرأي أضاف عنصرا جديدا إلى عناصر الركن المعنوي للجريمة هو التكوين الطبيعي للإرادة .

المبحث الثاني: آثار الغلط المادي و القانوني على المسؤولية الجنائية

إن اعتبار العلم عنصرا في القصد وبالتالي تحقق المسؤولية الجنائية يعني أن الدفع بالجهل بأحد عناصر الجريمة الواقعية أو القانونية يعدم القصد الجنائي. وسوف نتعرض أولا لأثر الجهل بالواقع أو الغلط فيه, ثم لأثر الغلط في القانون على قيام القصد الجنائي.

المطلب الأول: أثر الغلط المادي

لا تقوم الجريمة على عناصر مادية بحثة متمثلة في الركن المادي ،بل أيضا على عناصر نفسية تتمثل في ركنها المعنوي أي أن الجريمة لا يكتمل وجودها قانونا إلا باقتران ركنها المادي بركن آخر هو الركن المعنوي.

والملاحظ في الشخص أنه قد يريد ارتكاب جريمة فيتعذر عليه تحقيق النتيجة الإجرامية المسطرة ، و قد تغيب لديه نية ارتكاب جريمة فيرتكبها غلطا أو جهلا . هنا يثور التساؤل حول إمكانية مساءلة هذا الشخص. و عليه سنتناول الغلط في شخص المجني عليه

الفقرة الأولى: الغلط في شخص المجني عليه

إذا حصل الجهل أو الغلط في شخص المجني عليه كمن يطلق النار على شخص معتقدا أنه عدو له وتبين في الحقيقة أنه شخص أخر ويقتله, فإن القصد الجنائي يكون متوافرا لديه. ويؤاخذ الفاعل عن جريمة مقصودة, لأن النية الجرمية كانت متوافرة لدى الفاعل.

والسارق الذي يريد الإستيلاء على شيء ولكن فعله ينصب على شيء آخر معتقدا أنه ما كان يريد الإستيلاء عليه. وهذا الغلط غير جوهري, لأنه انصب على واقعة لا يتطلب القانون العلم بها, إذ أن تحقق النتيجة في موضوع معين ليس من عناصر الجريمة. فالنتيجة لها قيمة قانونية أيا كان موضوعها، لذلك فالمشرع حددها تحديدا مجردا, ويرى فيها مجرد الإعتداء على الحق دون أن يعنيه الموضوع الذي تصادف أنها تحققت فيه.

إن الغلط في شخصية المجني عليه ليس له أهمية قانونية, إذ أن المشرع يحدد النتيجة المعاقب عليها تحديدا مجردا دون أن يعنيه تحققها في هذا الموضوع بالذات أو في غيره, ففي جريمة القتل يعاقب المشرع على إزهاق روح إنسان أيا كان. فكل إنسان حي جدير بحماية القانون.

الفقرةالثانية: الغلط في النتيجة

ينجم هذا الغلط عن خلط بين موضوعين يصلح كل منهما محلا لتحقق نتيجة غير مشروعة كالقاتل الذي يريد إزهاق روح شخص معين فيؤدي فعله إلى إزهاق روح شخص أخر معتقدا أنه من يريد التخلص منه.

وتتساوى النتيجتان قيمة إذا اتحد حكمهما في القانون وتختلفان إذا ميز القانون بينهما في الحكم, وأظهر حالة تختلف فيها قيمة النتيجتين: في حالة ما إذا كانت إحداهما مشروعة و الاخرى غير مشروعة, وفيها ينتفي القصد مثال ذلك: أن يتوقع المجرم أن تكون نتيجة فعله إصابة حيوان فيؤدي فعله إلى وفاة إنسان. وتختلف النتيجتان في قيمتهما كذلك إذا اتحدتا في الصفة غير المشروعة ولكن اختلفتا في نوع الجريمة التي تقوم بكل منها, مثال ذلك أن يتوقع المجرم أن تكون نتيجة فعله هي قتل حيوان مملوك للغير فإذا بالنتيجة التي تتحقق هي وفاة إنسان.

ويستند الرأي السائد فقها وقضاءا في تبرير عدم الإعتداد بهذا الغلط غير الجوهري إلى أن القانون لا يعنيه في موضوع الجريمة إلا أن يكون إنسانا, والوفاة باعتبارها النتيجة الإجرامية في القتل تحددها النصوص التجريمية تحديدا مجردا بحيث يصبح جديرا بالحماية التي تقررها لكل كائن آدمي على قيد الحياة بغض النظر عن كون الضحية شخصا معينا أو شخصا آخر.

فالغلط في شخص المجني عليه أو الغلط في المال المسروق, يعني الغلط في موضوع النتيجة. فمن يتوقع حدوث النتيجة في موضوع معين. ولكن ترتب على فعله حدوث النتيجة في موضوع آخر لا يغير من القصد الجنائي, ويسأل الجاني عن الجرم المقصود الذي توقع حصول نتيجته.

إن القصد الجنائي يعتبر متحققا عند الغلط في توجيه الفعل وإصابة شخص آخر لأنه أراد حصول النتيجة المعاقب عليها. فالفاعل الذي يريد قتل إنسان ويطلق عليه النار ويقتل شخصا آخر, يسأل عن جريمة قتل مقصودة لأن الغلط في موضوع النتيجة لا ينفي القصد الجنائي ولا يغير في المسؤولية الجنائية.

ذلك أن الشريك الذي هيأ الوسائل المستعملة في القتل أو الدي حرض على ارتكاب الجريمة يظل خاضعا للعقاب الجنائي رغم الغلط الذي وقع فيه الفاعل الأصلي, كما هو الحال في باقي الجرائم، فلا يؤثر على قيام الضرب أوالسرقة أو النصب وقوع غلط في شخص الضحية.

الفقرة الثالثة: الغلط في العلاقة السببية

لا يسأل الشخص عن جريمة يتطلب القانون لتمامها حدوث نتيجة معينة إلا إذا كان سلوكه فعلا او امتناعا هو السبب في وقوع هذه النتيجة. ولذلك فإن علاقة السببية بين الفعل والنتيجة تشكل أحد عناصر الركن المادي للجريمة.

إن القصد الجنائي يتطلب توقع علاقة السببية إذ أن الجاني يتوقع نتيجة فعله أي توقع الآثار المباشرة للفعل لتحقق النتيجة الإجرامية المتوخاة.

والمشكلة التي تثور هي في الحالة التي يكون فيها الجاني متيقنا أو متوقعا حدوث النتيجة الإجرامية لفعله في تسلسل سببي معين كمن يلقي شخصا في البحر ليموت غرقا غير أن هذا الشخص يموت ليس غرقا و إنما من جراء ارتطام رأسه بإحدى الصخور. ففي هذه الحالة تقع الوفاة لا بناءا على السبب الذي توقعه الجاني وإنما بناءا على سبب آخر لا يعلمه هو الصخرة.

وبالتالي فالتساؤل الذي يطرح هل يعد مثل هذا الغلط جوهريا بحيث ينتفي القصد الجنائي, أم أن هذا الغلط هو غلط غير جوهري مما يترتب عليه توافر القصد الجنائي وبالتالي المسؤولية الجنائية؟.

لقد ثار خلاف فقهي للتمييز بين هذين الغلطين: هناك جانب من الفقه اتجه نحو المعيار شخصي, في حين اتجه الجانب الآخر نحو المعيار الموضوعي.

فانصار المعيار الشخصي: يرون اعتبار الغلط جوهريا إذا كانت الكيفية التي توقع الجاني أن تتحقق بها النتيجة, إنما هي باعث حمل الجاني إلى السعي إلى إحداث النتيجة الإجرامية, و أهم ما يؤخد على هذا المذهب الشخصي أنه يهتم بالبواعث التي تتصل بالإرادة.

أما أنصار المعيار الموضوعي: فيرون أنه إذا تطلب المشرع حدوث النتيجة الإجرامية عن طريق تسلسل سببي معين أو يعلق على حدوث النتيجة عن طريق هذا التسلسل السببي أهمية خاصة.

في حين إذا لم يكن للاختلاف بين التسلسل السببي المتوقع والتسلسل السببي الذي تحقق قيمة وأهمية في نظر القانون, إذ يستوي في نظره حدوث النتيجة عن طريق أي نوع من التسلسل السببي في الغلط.

وبالتالي كل ما يمكن قوله هو أنه إذا كانت الوسيلة مقيدة أي لا تقوم الجريمة إلا بها قانونا كالقتل بالتسميم فإن الغلط فيها يصبح نافيا للقصد. أما إذا كانت الوسيلة مطلقة كان الغلط فيها ثانويا وبالتالي لا يؤثر الغلط فيها في توافر القصد.

الفقرة الرابعة: الغلط في الظروف المشددة أو أسباب التخفيف

الظروف المشددة قد تكون ظرفا عينية أو ظرفا شخصية. فبعض هذه الظروف قد تغير من نوع الجريمة, وبعضها يغير من مقدار العقوبة فقط. فإذا كان الظرف يغير من نوع الجريمة فهو يعد في حكم الركن بالنسبة لها ويتعين علم الجاني به, فإن لم يحط به علما انتفى القصد الجنائي لديه. على أن هناك من فرق بين الظروف الشخصية والظروف العينية. فالجهل أو الغلط في الظرف المشدد الذي يغير من وصف الجريمة, يؤدي إلى سؤال الجاني عن هذه الجريمة مجردة من الظرف المشدد , فحمل السلاح يعتبر من الظروف العينية المشددة في جريمة السرقة, فهناك من يرى تطبيق النص القانوني على الفاعلين والشركاء سواء علمو بها أو لم يعلمو, على أن من اشترط علم الجاني بتوافر هذا الظرف على اعتبار أنه من أركان الجريمة التي يتعين العلم بها. فمن يرتدي معطفا وقد وضع فيه شخص دون علمه سلاحا, ثم يرتكب جريمة سرقة معتقدا أنه لا يحمل سلاحا في معطفه, لا يسأل إلا عن جريمة سرقة بسيطة.

أما الغلط في الظروف الشخصية التي تتصل بالفاعل ولا تقتضي تغيير وصف الجريمة, بل تشدد العقوبة فقط, مثل ظرف التكرار, فلا يستفيد الفاعل من جهله أو غلطه وذلك لأن جهله إنما انصب على واقعة لا تعد أحد عناصر الجريمة.

أما بالنسبة لأثر الغلط في أسباب التخفيف إذا حقق الجاني بنشاطه الركن المادي للجريمة ومن تم توافر القصد الجنائي لديه ولكنه اعتقد توافر الوقائع التي يقوم عليها سبب لتخفيف العقاب, في حين لم تكن هذه الوقائع متوافرة, فهل يساءل الجاني عن الجريمة في صورتها العادية ؟ أم هل يستفيد من التخفيف ويساءل عن الجريمة كما لو كانت الوقائع التي اعتقد وجودها قد توافرت في الحقيقة؟ فمثلا إذا اتهم شخص بقتل زوجته وثبت أنه كان يعتقد حين أتى الفعل أنها متلبسة بالزنا ثم تبين أن الرجل الذي كان يجلس معها في ضوء خافت إنما هو ذو رحم وأن جلستهما لم يكن فيها ما يشين ففي هذه الحالة هل يساءل عن جريمة قتل قصدية عادية؟ أم هل تخفف مسؤوليته فلا تقع عليه سوى العقوبة المخففة؟

نرى أن الوقائع التي يقوم عليها التخفيف في الجريمة العادية إنما هي عناصر سلبية أي بمعنى آخر يلزم انتفاء مثل هذه الوقائع وذلك حتى توقع العقوبة العادية. أي يجب أن يعلم الجاني بالعناصر السلبية حتى توقع عليه مثل هذه العقوبة, فإذا لم يعلم بالعناصر السلبية معتقدا توافر هذه العناصر, فإن القصد الجنائي حينئذ في الجريمة العادية يكون غير متوافر, ومن ثم, لم يكن هناك مجال لمساءلة الجاني عن الجريمة العادية, إنما يسأل هذا الجاني على الجريمة ذات العقوبة المخففة.ونرى أن المشرع الجنائي الايطالي قد حسم هذا الموضوع فأخد برأي يخالف الرأي الذي سلمنا بصحته إذ نصت المادة 95 في الفقرة الثانية من قانون العقوبات أنه ” إذا اعتقد الجاني عن طريق الغلط وجود ظروف تخفف العقاب فإنها لا تفيده”, حيث يستند هدا الرأي على قاعدة المسؤولية الموضوعية, التي يرى المشرع الايطالي الأخد بها بالنسبة لظروف الجريمة سواء أكانت ظروفا مخففة أم مشددة إذ يقتصر تطلب الركن المعنوي على العناصر الأساسية للجريمة.

لهذا إذا سلمنا بأن غلط الجاني تمثل في جهله توافر ظرف مشدد فإنه يسأل مسؤولية جزائية عن العقوبة, ذات العقوبة العادية غير المشددة إذ أن النتيجة المنطقية تقتضي الاهتمام بالغلط في أسباب التخفيف حيث أن العلاقة بين الجريمة العادية والجريمة المخففة هي كالعادة بين الجريمة المشددة والجريمة العادية.

الفقرة الخامسة: الغلط في أسباب الإباحة

يتحقق الغلط في السبب المبيح حين يتوهم الشخص وقت ارتكاب الفعل أنه يمارس حقا له في حين أن هذا الحق لا وجود له أصلا أو أنه بافتراض وجوده لا يخوله ارتكاب الفعل. ويتحقق أيضا حين يرتكب الموظف الفعل المجرم عن اعتقاد بأنه يدخل في نطاق اختصاصه وأن الشروط اللازمة لصحة ممارسته متوفرة, كأن يقبض على شخص يشتبه في وقوع جريمة منه دون أن تكون حالة الجرم المشهود قائمة, أو يقبض عليه تنفيذا لأمر باطل وهو يجهل وجه بطلانه. ويتحقق الغلط كذلك حين يتوهم الشخص أن عدوانا وقع عليه فيبادر إلى دفع ماتوهمه بارتكاب فعل يعد جريمة.

والسؤال الذي يثار بخصوص الجهل بالاباحة هل يستفيد المتهم من سبب الاباحة الذي توافر فعلا بالرغم من جهله لأسباب الاباحة , ومن تم اعتقاده بعدم مشروعية فعله.

والرّأي السائد في الفقه يجيب على مثل هذا السؤال, أن المتهم يستفيد من سبب الاباحة على الرغم من جهله بهذه الاسباب ويستند في ذلك على أن سبب الاباحة ذو طبيعة موضوعية.

لهذا فان سبب الاباحة ينتج أثره بمجرد توافره دون أن يكون لعلم المتهم أو إرادته شأن في ذلك ونرى أن تفسير الطابع الموضوعي لسبب الاباحة إنما يرجع إلى وجود قاعدة قانونية تقيد من نطاق نص التجريم, وهو ما لا شأن له بما يتوافر في اعتقاد الجاني ونيته كذلك فان المتهم الذي يجهل سبب الاباحة الذي توافر لمصلحته يكون أشبه بالذي يرتكب جريمة ظنية فمثلا من يرتكب فعلا لم يجرمه القانون وهو يعتقد تجريم القانون لهذا الفعل فإنه حينئذ لا يساءل جنائيا.

لكل ما تقدم فإن الأصل هو الجهل بأسباب الإباحة لا يحول دون الإستفادة منها لكن إذا تضمنت الإباحة عنصرا شخصيا يفترض العلم بالإباحة فإن الجهل بها يحول دون الاستفادة منها.

كذلك حق الطبيب في مباشرة العمل الطبي إنما يفترض من بين شروطه العلاج, حيث يفترض العلم بمرض من يباشر العمل عليه والعلم بأن من شأن الفعل علاجه فإن جهل الطبيب ذلك فإن هذا القصد لا يتوافر لديه ومن ثم فإنه لا يستفيد من الإباحة.

والغلط في الإباحة لا يعدل الإباحة, لأنه لما كان الإعتقاد الخاطئ بقيام أمر لا يجعل هذا الأمر قائما في الواقع, فكذلك الوهم لا يأخد الحقيقة. لذلك فالغلط في وجود السبب المبيح لا يصلح في القانون مبررا لإباحة الفعل ولو كان الغلط مغتفرا, بيد أن ذلك لا يعني من جهة اخرى أن الغلط يتساوى مع العلم الحقيقي ذلك أن السبب المبيح عنصر في الجريمة, وكونه عنصرا سلبيا لا يغير من جوهره, كل ماهنالك أن هذه الصفة تجعل له دورا يختلف عن دور غيره, بمعنى أن علاقته بالجريمة عكسية, إذ يؤدي وجوده إلى انتفائها, وعدمه إلى وجودها متى توفرت العناصر الاخرى

المطلب الثاني: أثر الغلط في القانون على المسؤولية الجنائية:

    بالنظر إلى كثرة التشريعات، حيث تشمل كل مناحي الحياة المختلفة، أصبح الإنسان العادي لا يستطيع أن يعلم الكثير منها، وإن تحقق علمه بها فقد يصعب عليه فهم مضمونها وفحواها. بل وأصبح رجل القانون و القضاء لا يستطيع أن يحصيها عددا وأن يصاحب التعديلات المتلاحقة التي تجرى عليها.

و عليه يقتضي حديثنا عن أثر الغلط في القانون أن نبين بادئ ذي بدء المبدأ العام و أساسه
(الفقرة الأولى) على أن نبين الاستثناءات و مبرراته (الفقرة الثانية).

     ا لفقرة الأولى: المبدأ العام و أساسه:

من الأصول المقررة في التشريع أن العلم بالقانون الجنائي والقوانين العقابية المكملة له مفترض في حق كل إنسان فرضا لا يقبل إثبات العكس فلا يقبل من أحد الاعتذار بجهله للقانون أو الغلط فيه. و ترجع العلة وراء افتراض هدا العلم إلى الرغبة في تطبيق القانون على الكافة بطريقة تحقق المساواة بين أفراد المجتمع اد أن فتح باب الإعتدار بالجهل بالقانون يكلف سلطة الاتهام عبء إثبات هدا العلم على عاتق المتهم و يفسح المجال للجناة للإفلات من العقاب بحجة جهلهم أو تفسيرهم للنصوص الجنائية و بكيفية تجعلهم في منأى عن العقاب و المساءلة، و بالتالي فإغفال هذه القاعدة ليس إلا تعطيل لأحكام القانون الجنائي و إضرارا بالمصلحة العامة و إفلاة الجناة من العقاب.

    وهذه القاعدة مسلم بها في أغلب التشريعات، والواقع أن هذا المبدأ مسلم به ولا حاجة إلى تكريسه بنص خاص. وقد نصت على هذه القاعدة صراحة المادة 2 من القانون الجنائي بقولها أنه: “لا يسوغ لأحد أن يعتذر بجهل التشريع الجنائي”. ومن ثم لا يمكن لمرتكب الجريمة، دفعا للتهمة المنسوبة إليه، أن يتذرع بأنه كان يجهل الصفة غير المشروعة للفعل. أو وقع ضحية تفسير خاطئ لنص القانون.

ورغم أن افتراض العلم بالقانون يخالف الواقع في كثير من الأحيان حيث يتعذر ـ بل يستحيل ـ أن يلم كل شخص بجميع المقتضيات القانونية النافذة وأن يفهمها على الوجه الصحيح إلا أنه يمثل مبدأ قائما على اعتبارات تمليها المصلحة العامة أساسا. التي تتطلب أن يوضع على قدم المساواة العلم الفعلي بالقانون والعلم المفترض به، وذلك حتى لا يسهل الاحتجاج بالجهل بالقانون الجنائي أو الغلط في فهم نصوصه.

أولا: أثر الغلط على المسؤولية الجنائية غير العمدية:

إن التمسك بالغلط في القانون يكون غير مبرر في الجرائم غير العمدية، لأن العقاب على هذه الجرائم لا يحتاج إلى إرادة آثمة تكون متجهة إلى عصيان أوامر المشرع ونواهيه، وإنما تتحقق المسؤولية عن هذه الجرائم عندما يعد سلوك الجاني مكونا لأحدى صور الخطأ غير العمدي التي يعاقب عليها القانون. إذا كان سبب الغلط هو إهمال الفاعل أو عدم يقظته، بحيث كان بإمكانه تفادي الوقوع فيه لو أنه تذرع بالحيطة و الحذر اللازمين لدلك فإنه تتحقق صورة الخطأ غير العمدي .

إذا حدثت الجريمة دون تعمد الخروج على أوامر المشرع ونواهيه نتيجة إخلال الجاني بواجبات الحيطة والحذر أو لإهماله فإنه لم يتصور مسبقا نتائج سلوكه، ولذلك يكفي لقيام مسؤوليته غير العمدية توافر عناصر الخطأ غير العمدي قبله.

ومن ثم يمكن القول بأن الجرائم غير العمدية تتحقق بالإهمال وعدم التبصر و مثال ذلك إذا عبث شخص بمسدسه معتقدا خلوه من المقذوف فانطلقت منه رصاصة نحو صديق له فقتله هنا ستتم مساءلته عن جريمة القتل غير العمدي على اعتبار أن هذا الغلط الذي وقع فيه يشكل في ذاته إهمالا تقوم به جريمة القتل الخطأ، ولذلك فإن الجهل بالنص التجريمي أو التفسير غير الدقيق له في الجرائم غير العمدية لا يصلح لأن يكون عذرا لنفي المسؤولية الجنائية لأن هذه الأخيرة تتحقق بمجرد إخلال الجاني بالواجب المفروض عليه بالابتعاد في سلوكه عن الإهمال ومراعاة الحيطة والحذر.

ثانيا: أثر الغلط على المسؤولية الجنائية العمدية:

تكون الإرادة آثمة وعاصية عندما تتجه إلى عصيان أوامر المشرع ونواهيه، فيكون من الطبيعي وجوب أن يعلم الجاني بالصفة التجريمية للسلوك الذي اقترفه، واتساقا مع ذلك فإن الاعتداد بالغلط في القانون يكون مبررا بالنسبة للجرائم العمدية.

إذا كانت القاعدة العامة هي عدم الاعتداد بالغلط في القانون فإن بعض التشريعات تعتبر الغلط في القانون مانعا من المسؤولية الجنائية في مجموعة من الحالات اعتمادا على مجموعة من المبررات(عملية، قانونية، العدالة) ووفق شروط صارمة.

اعتبارات عملية:

إن افتراض العلم بالقانون قرينة قاطعة لا تقبل إثبات العكس، ومفاد هذه القرينة أنه لا يقبل من أحد أن يحتج بجهله نصوص هذا التشريع أو تأويلها على نحو مغلوط. لكن بالنظر إلى التضخم التشريعي خاصة فيما يتعلق بالقانون الجنائي وما يتعرض له من تعديلات كثيرة، أصبح الإلمام التام من طرف المواطن بكل التشريعات المستجدة أمرا عسيرا أو مستحيلا. هذا مع العلم أن طبيعتها تجعل إمكانية فهمها من طرف المواطنين بالأمر الصعب لأن الأمر يتعلق بمصطلحات قانونية تتطلب ثقافة قانونية.

والبديهي أن يجهل المواطن بعض التشريعات كقوانين التصدير و الاستيراد و كدا قانون الضرائب كأن يعتقد فرد أنه غير ملزم بأداء ضريبة.

ومن ثم فرفض الاعتداد بالغلط في القانون أمر غير عادل وغير مدرك للحقيقة إلا أنه لا يمكن الاعتذار بجهل مجموعة من المبادئ المطابقة للعقل، حيث تستنكرها من الأصل، الأخلاق العرف والدين مما لا يتصور معه الجهل بها. هذا التجريم الذي يستشعره حتما ضمير الجاني كما هو الحال في القتل والسرقة، فالناس كافة يعلمون أن الضرب و الجرح و التزوير و الاغتصاب وهتك العرض جرائم في القانون رغم عدم اطلاعهم على نصوص القانون الأمر الذي يثير عادة مشاكل من حيث ثبوت علم المتهم بالصفة الجرمية لهذه الوقائع في القانون .

اعتبارات قانونية

إذا كان القصد الجنائي هو إرادة اتجهت إلى مخالفة القانون فإن العلم بالقانون عنصر جوهري لابد منه كي يتوافر القصد الجنائي. ولا يتحقق إلا بتوافر العلم الحقيقي للصفة التجريمية للفعل. و من ثم لا يمكن محاسبة أي مواطن عن سلوك صادر منه قبل أن نعلمه علما مسبقا بما يعد جريمة وما لا يعد كذلك. وأن يكون ذلك في نصوص قانونية تكون قد وصلت إلى علمه واستطاع أن يدرك مضمونها. فلا يمكن القول بأن الغلط يعد مانعا من المسؤولية الجنائية إلا إدا ثبت أنه يؤثر في عنصر العلم كأحد العناصر المهمة التي يقوم عليها القصد الجنائي أما إذا أنصب الغلط على بعض العناصر غير الأساسية في الجريمة فلا تأثير له في نفي القصد ألجرمي .

اعتبارات العدالة:

لمساءلة الجاني تتطلب مقتضيات العدالة أن تكون إرادته تتعمد الخروج على أوامر المشرع ونواهيه، أي أن الجاني لديه علم بالقانون علما فعليا و من ثم فمحاكمته تتطلب علمه بارتكاب فعل غير مشروع.

إن قرينة افتراض العلم بالقانون تضع جميع المواطنين على قدم المساواة في افتراض علمهم بالقانون، أي لا فرق بين من يدرك منهم الصفة غير المشروعة لسلوكه وبين من لا يدرك هذه الصفة وبذلك يمكن القول أن هذه القرينة تخالف قواعد العدالة حيث لا يعقل أن يحيط كل شخص بالقوانين وأن يفهمها على الوجه الصحيح, علما بأن المواطن قد يكون أميا لا يقرأ و لا يعرف الكتابة، ورغم ذلك فلا ينفي عنه افتراض علمه بالقانون

وفي هذا السياق، يستبعد الفقيه Laborde فرصة الاعتذار بالجهل بالقانون الجنائي ولو كان مرده البيئة الاجتماعية التي يعيش فيها الجاني والتي تكون فرضت عليه عدم التعليم والثقافة، غير أنه لا يقصد Laborde بالعلم بالقانون الإلمام بمعرفته وتفسيره على الوجه الصحيح وإنما هو مجرد إدراك لفكرة عامة مبسطة بوجود نص قانوني يجرم ارتكاب فعل معين إلا أن المقصود بالعلم بالقانون هو العلم به على وجهه الصحيح الدي عناه المشرع.

بالرغم من هذه التبريرات المستقاة من الواقع لا تزال أغلب التشريعات متشبتة بقاعدة عدم جواز الاعتذار بالغلط في القانون. بيد أن البعض الآخر وضع مجموعة من الاستثناءات تمنع من قيام المسؤولية الجنائية استجابة لمقتضيات العدالة .

الفقرة الثانية: الاستثناءات و مبرراته:

بالنظر إلى قسوة قرينة عدم جواز الاعتذار بالجهل بالقاعدة الجنائية فإن الفقه والقضاء استمرا في البحث عن وسيلة أخرى عسى أن يؤدي تطبيقها إلى التخفيف من هذه القسوة وقد تمثلت هذه الوسيلة الجديدة في الاعتداد بالغلط الحتمي والاستحالة المادية.

أولا: الاستحالة المادية: استحالة العلم بالقانون:

يقصد بالاستحالة المادية وجود ظروف شاذة استثنائية تحول دون العلم بالقانون استحالة مادية، مما يترتب عليها عدم المسؤولية الجنائية لأن استحالة العلم بالقانون بسبب هذا النوع من الاستحالة سيؤدي إلى عدم توافر العلم بالصفة التجريمية للفعل ومن ثم هدم أحد العناصر الهامة للقصد الجنائي.

إذا كانت القاعدة هي أن الغلط في القانون لا يصلح عذرا إلا أن هذه القاعدة ليست مطلقة، حيث إذا ثبت أن الظروف التي أحاطت بالجاني عند ارتكابه لفعل قد جعلت علمه بالقانون مستحيلا فإن اعتذاره بالجهل به ينفي عنه القصد الجنائي. والاستحالة هنا هي الاستحالة المطلقة التي تجرد الجاني من كل وسائل العلم بالقانون بحيث تجعل الجاني مهما بدل من حرص و عناية لا يمكنه العلم بأحكام القانون، وهذه الاستحالة المطلقة ما هي إلا ثمرة القوة القاهرة.

و مثال ذلك وجود قوة قاهرة حالة دون وصول الجريدة الرسمية إلى جزء من إقليم الدولة مثل حدوث فيضان فيه، فلا يعد القانون منشورا في هذا المكان، وعليه لا تسري أحكام القانون عليهم ولا يعتبر المتواجدين فيه بمثابة المخاطبين.و من ثم فلا محل لأن ينسب إليهم القصد الجنائي وعلة هدا الاستثناء هو المبدأ الأساسي الدى يرى أنه: لا إلزام بمستحيل و لا تكليف إلا بمستطاع.

ثانيا: الغلط الحتمي:

إذا كانت الاستحالة تفترض ظروف مادية تجعل علم الجاني بالقانون غير ممكن مهما بذل من جهد، فإن الغلط الحتمي يقتضي حالة نفسية خالصة تبررها ظروف من شأنها أن تشكل عذرا للجاني، فمن يعتقد شرعية فعله لأنه تلقى تأكيدا من طرف عمالة حول إمكانية بناء بدون رخصة، كذلك في قضية تحصل وقائعها في أن سيدة قدمت للمحاكمة بتهمة مزاولتها مهنة الطب بدون ترخيصفلا يمكن مساءلته في هذه الحالة. علما أن هذه السيدة كانت قد احترفت علاج بعض عيوب النظر عن طريق رياضة العيون وقبل مزاولتها لهذه المهنة استشارت سكرتير نقابة الأطباء وعميد أطباء العيون ومدير الصحة في المقاطعة فأكدوا لها جميعا أن نشاطها مشروعا ولا يشكل جريمة مزاولة مهنة الطب بدون ترخيص فقضت المحكمة ببراءتها.لأن الأمر يتعلق بعيب مستقل في الركن المعنوي للجريمة و من ثم عدم قيام المسؤولية الجنائية.

لقد شاركها في هدا الغلط من افترضت فيهم العلم الكامل بأحكام القانون و بالتالي لا يمكن إلزام المتهمة بأن تفسر القانون تفسيرا أشد مما يفسره به صفوة من يمثلون الهيئات التي تسهر على احترامه.

ولذلك فإن الغلط يكون حتميا إذا كان الفاعل قد قام في سبيل التأكد من مشروعية سلوكه بكل ما يجب عليه القيام به خاصة من حيث التأكد من عدم خضوع هذا السلوك لنص تشريعي يجرمه ويعاقب عليه.

ومن أجل تحديد فكرة الغلط الحتمي هناك معيارين:

  • المعيار الواقعي:

    يراعي هذا المعيار درجة الثقافته القانونية للجاني، وطبيعة مهنته، ومستواه الأخلاقي ووضعه الاجتماعي ومدى الحرص الذي يتوافر لديه في حياته العادية.

  • المعيار المجرد أو الموضوعي:

    بعيدا عن ظروف الفاعل الشخصية يراعي هذا المعيار الحد الأدنى من العناية والحرص الذي يبذله الشخص المعتاد. و عليه فكل شخص متوسط العناية و الحذر في أموره، لو أحاطت به نفس الظروف التي أحاطت بالجاني حينما ارتكب فعله كان سيعتقد أيضا أن فعله مشروع. إذن من هذه المعايير يمكن تحديد عناصر الغلط الحتمي:

  • الاعتقاد الخاطئ بمشروعية السلوك:

اعتقاد الجاني عدم خضوع الفعل المرتكب لنص قانوني يجرمه، وثبت أنه لم تكن لديه أية وسيلة كان يمكنه اللجوء إليها لتجنب الوقوع في هذا الغلط.

  • عدم استطاعة الجاني تجنب الوقوع في الغلط:

لم يكن في وسع الجاني تفادي الوقوع في هذا الغلط، يعني أنه بذل قصارى جهذه وقت ارتكابه للفعل غير المشروع.

يمكن القول أن الغلط الحتمي شأنه شأن الأسباب الأخرى التي تؤثر في التكوين الطبيعي للإرادة يترتب عليه نفي المسؤولية الجنائية على ألا يكون الجهل أو الغلط راجع إلى تقصير من جانب المتهم أي أن يكون حتميا يتعذر تفاديه.

و على الرغم من هذه المحاولات التي قامت بها بعض التشريعات للإعتداد بالغلط في القانون وإحداث أثره في امتناع المسؤولية الجنائية ، إلا أن دلك لم يمس القوة التي تتمتع بها قرينة الإعتدار بالجهل بالقانون، فهي مازالت الأصل الدي تتقيد به كل التشريعات ، و أن محاولات الخروج عليها ما هي إلا استثناءات قد أخدت بها بعض التشريعات من أجل التخفيف من قسوتها.

خاتمة

إذا كان المجتمع يهمه الحفاظ على مصالحه وأمنه بالتذرع بالحيل القانونية واللجوء إلى الافتراض، إلا أن هذا لا يجب أن يكون على حساب العدالة، فهذه العدالة تأبى عقاب من لا تتوافر لديه الإرادة الآثمة بأن يعلم بالصفة التجريمية للسلوك المرتكب منه، فهذه القاعدة على هذا النحو تجرح العدالة في الصميم، بل أكثر من ذلك أن الحفاظ على مصلحة المجتمع لا يجب أن يكون وسيلة للقضاء على حرية الفرد وإنسانيته.

و مما لاشك فيه أن تنامي تطور سياسة التجريم لتشمل جل الأفعال سواءا القريبة من الشخص أو التي تبعد عن حياته اليومية، سيزيد من الاهتمام بموضوع الغلط و أثره على المسؤولية الجنائية.

إن المشرع المغربي، على غرار العديد من التشريعات الأخرى، كان غير موفقا إلى حد كبير لعدم جعل الغلط خاصة القانوني مانعا من موانع المسؤولية الجناية .

أيضا، إذا كانت القوانين المغربية خاصة القانون الجنائي قد أخده المشرع المغربي من المشرع الفرنسي علما بأن هذا الأخير وضع مجموعة من الاستثناءات لقاعدة عدم جواز الاعتداد بالغلط في القانون كما رأينا سابقا ، فإنه من المجحف عدم إدراج هذه الإستثناءات في القانون الجنائي المغربي.

ختاما، هل يمكن لأحد منا العلم بكل النصوص القانونية و أن يفهمها على الوجه الصحيح ؟ و هل يمكن أن نتصور شخصا ما في كل لحظة و حين لا يمكنه أن يكون عرضة لغلط مادي مادامت اليوم أغلب الأشياء تتشابه و التمييز بينها يتطلب الدقة .


_ سمير عاليه : شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت _لبنان ، طبعة منقحة ومعدلة حديثا 1422هـ _ 2002

_ أشرف توفيق شمس الذين : شرع قانون العقوبات ، القسم العام ، مطابع الدار الهندسية ، القاهرة ، الطبعة الاولى ، 2007

_ شادية شومي : في القانون الجنائي العام ، دار القلم ، الرباط ، الطبعة الثانية 2001

_محمد سامي النبراوي : شرح الاحكام العامة لقانون العقوبات الليبي ، منشورات جامعة قار يونس، بنغازي ، الطبعة 1987

_ أبو المعاطي حافظ أبو الفتوح : شرح القانون الجنائي المغربي ، القسم العام ، مكتبة النجاح الجديد، الدار البيضاء ، الطبعة الاولى 1980

_ سليمان عبد المنعم : مبادئ علم الجزاء الجنائي ، 2002

_ العلمي عبد الواحد : شرح القانون الجنائي ، القسم العام ، مطبعة النجاح الجديدة ، الدار

البيضاء ، الطبعة الثانية 2009

_ رؤوف عبيد : مبادئ القسم العام ، النظرية العامة للقانون الجنائي ، دار الفكر العربي ، الطبعة

1965

_ محمود داوود يعقوب : المسؤولية في القانون الجنائي ، منشورات الحلبي الحقوقية ، الطبعة

الاولى ، بيروت لبنان 2008

_محمود نجيب حسني :شرح قانون العقوبات اللبناني ، القسم العام ، منشورات الحلبي الحقوقية ،

الطبعة الثالثة 1998، بيروت لبنان

_محمود نجيب حسني : النظرية العامة للقصد الجنائي ، دراسة تأصيلية مقارنة للركن المعنوي، الطبعة الثالثة سنة 1988.

_ محمود علي السالم عياد الحلب: شرح قانون العقوبات ، القسم العام ، مكتبة دار التقافة

بدون طبعة ، عمان 1998

_نبيه صالح : النظرية العامة للقصد الجنائي ، مكتبة دار التقافة ، الطبعة الاولى عمان 2004

_علي محمود علي حمودة :أثر الغلط في القانون ومدى اعتباره مانعا من المسؤولية الجنائية ، الطبعة الاولى 2003

_ محمد زكي أبو عامر : قانون العقوبات ، القسم العام ، دار المطبوعات الجامعية ، بدون طبعة

الإسكندرية 1990

_ وجيه محمد خيال، أثر الشدود العقلي و العصبي في المسؤولية الجنائية، رسالة لنيل دكتوراه 29/12/1983.

_عبد الحفيظ بلقاضي، مدخل إلى الأسس العامة للقانون الجنائي المغربي، الجزء الأول، دار الأمان، الطبعة الأولى 2003،مطبعة الكرامة.

_ إيهاب عبد المطلب،سمير صبحي،القانون الجنائي المغربي في ضوء الفقه و أحكام المجلس الأعلى المغربي و محكمة النقض المصرية، المجلد الأول، الطبعة الأولى 2009-2010 ،منشورات المركز القومي للإصدارات القانونية.

_ الحماية الجنائية للبيئة، رسالة لنيل دبلوم الدراسات العليا.

Benoit Chabert et Pierre-Olivier Sur : Cours de droit pénal général, 2 édition 1997, DALLOZ.

Bernard Bouloc, Droit Pénal Général, 20e Edition Dalloz 2007.                          


المبحث الأول: الغلط المادي والغلط في القانون

المطلب الأولى: الغلط المادي

الفقرة الأولى: العلم بالواقع

الفقرة الثانية: الجهل أو الغلط في الواقع

المطلب الثاني: الغلط في القانون

الفقرة الأولى: مفهوم الغلط في القانون

الفقرة الثانية : تأثير الغلط في القانون على القصد الجنائي

الفقرة الثالثة : عدم تأثير الغلط في القانون على عناصر القصد الجنائي

الفقرة الرابعة: تأثير الغلط في القانون على التكوين الطبيعي للإرادة

المبحث الثاني: آثار الغلط المادي و القانوني على المسؤولية

المطلب الأول: آثار الغلط المادي

الفقرة الاولى :الغلط أو الجهل في شخص المجني عليه

الفقرة الغلط في النتيجة

الفقرة الغلط في العلاقة السببية

الفقرة الغلط في الظروف المشددة أو أسباب التخفيف

المطلب الثاني: أثر الغلط في القانون على المسؤولية الجنائية:

     الفقرة الأولى: المبدأ العام و أساسه:

أولا: أثر الغلط على المسؤولية الجنائية غير العمدية:

ثانيا: أثر الغلط على المسؤولية الجنائية العمدية:

الفقرة الثانية: الاستثناءات و مبرراته:

أولا: الاستحالة المادية:

ثانيا: الغلط الحتمي:

                                                       www.droitetentreprise.com


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

الدفاع الشرعى ومفهومه فى القانون الدولى والشريعة الاسلامية

                 الدفاع الشرعى ومفهومه فى القانون الدولى والشريعة الاسلامية ...