استقلال الجريمة المسلكية عن الجريمة الجزائية
تعرّف الجريمة المسلكية بأنها إخلال العامل بإحدى الواجبات أو النواهي التي تفرضها مقتضيات الوظيفة، أما الجريمة الجزائية فهي قيام الشخص بعمل منعه عنه قانون العقوبات والقوانين المكملة، وكل من الجريمتين الجزائية والمسلكية لها ميدان تطبيق خاص ولها غرض تسعى إلى تحقيقه وتختلف كل منهما عن الأخرى في طبيعتها وأركانها، وكل منهما مستقلة عن الأخرى استقلال المجال الذي تدور فيه ولو كان ثمة ارتباط بين الجريمتين.
وقد ينطوي الفعل الذي يأتيه العامل على جريمتين في وقت واحد جزائية ومسلكية، وأنه حتى مع اتحاد وصفيهما فإن ذلك لا يخل بفكرة استقلال العقاب المسلكي عن العقاب الجزائي الذي يقتضي خضوع كل منهما للقواعد والأحكام التي رتبها النظام الذي تحكمه وارتكبت في مجاله، إذ لا تطابق بين الجريمتين وقد أكد ذلك قانون العاملين الأساسي في الدولة بما نص عليه من أن كل عامل يخالف أحكام هذا القانون يعاقب بإحدى العقوبات المسلكية المنصوص عليها فيه وذلك مع عدم الإخلال بإقامة الدعوى المدنية أو الجزائية ضده، ومن ثم فقد يكون الفعل الخاطئ الواحد مؤدياً إلى المساءلة المسلكية والجزائية في وقت واحد
واستقر القضاء الإداري على أن هناك استقلالا بين الجريمتين وإن لكل من الدعويين مجالها المستقل الذي يعمل به دون إغفال حجية الحكم الجزائي وأثره على المسؤولية المسلكية، فقضى بأن المخالفة المسلكية تختلف اختلافاً كلياً في طبيعتها وتكوينها عن الجريمة الجزائية وإن كان الفعل الواحد يكوّن الجريمتين معا، وكذلك قضي بأن معاقبة العامل جزائياً لا يَحول دون معاقبته مسلكياً لاختلاف الجرم الجزائي عن المخالفة المسلكية في القوام والغاية من العقوبة في كل منهما.
ولقد أرجع بعض الفقه هذا الاستقلال إلى أسباب عديدة يذكر منها:
1-إن الجريمة المسلكية قوامها مخالفة الموظف لواجبات وظيفته وخروجاً على مقتضياتها فهي متعددة الصور ونطاقها غير محدد، ومن ثم فإنها لا تخضع لقاعدة لا جريمة بغير نص، وعلى ذلك فإنه يجوز لمن يملك قانوناً سلطة التأديب أن يرى في عمل ما إيجابي أو سلبي يقع من الموظف عند ممارسته أعمال وظيفته جرماً مسلكياً إذا كان لا يتفق وواجبات وظيفته، أما قوام الجريمة الجزائية فهو خروج المتهم على المجتمع فيما ينهي عنه قانون العقوبات والقوانين الجزائية أو تأمر به ولهذا فإنها تستند إلى جرائم وعقوبات محددة.
2- تغاير الغاية أو الهدف من الجزاء في كل من الجريمتين المسلكية والجزائية فهو في الأولى مقرر لحماية الوظيفة العامة، أما في الثانية فهو قصاص من المجرم لحماية المجتمع.
3- إن سبب الخطأ المسلكي قد يكون راجعاً إلى رعونة أو سوء تصرف أو إهمال أو موقف سلبي ضار بسير المرافق العامة سيراً حسناً، أما سبب الخطأ الجزائي فقد يكون متمثلاً في الخبث والرغبة في الضرر والميل إلى الخروج على القوانين الاجتماعية للنظام العام.
ويترتب على هذا الاستقلال أنه يجوز الجمع بين المسؤوليتين فلا تجُب المسؤولية أو العقوبة الموقعة عن أحدهما المسؤولية أو العقوبة الواجب توقيعها عن الأخرى، بل يجوز الجمع بين المسؤوليتين والعقوبتين دون أن يعتبر ذلك ازدواجاً في المسؤولية والعقوبة، ولهذا فإن الحكم بالعقوبة الجزائية لا يمنع الجهة التأديبية من محاسبة الموظف على ما يكون قد انطوى عليه الجرم الجزائي ذاته من مخالفات مسلكية لأن الحكم على الموظف جزائياً لا يغل يد الإدارة عن إعادة تقييم ما ارتكبه من الناحية المسلكية ولها من ثم أن توقع الجزاء المناسب عليه.
ونستعرض فيما يلي أبرز أوجه الشبه والاختلاف بين الجريمتين
أولاً : أوجه الشبه بين الجريمتين المسلكية والجزائية:
1- من حيث الأركان: تتفق الجريمتان في أن أركانهما تكاد تكون واحدة إذ يجب لقيام الجريمة وثبوتها توافر ركنين أساسيين وهما الركن المادي والركن المعنوي.
2- جوهر المسؤولية: في الواقع إن الجريمتان المسلكية والجزائية تقومان على فكرة الضرر أو الإثم.
3- التأثير على مستقبل الموظف: تتفق الجريمتان في أن كلاهما يستوجب توقيع عقوبات على الموظف مما يؤثر على حياته ومستقبله سواء العام باعتباره مواطن أو الخاص باعتباره موظف.
4- وجوب إجراء تحقيق يشترط لسلامة المحاكمة سواء الجزائية أو المسلكية، وهذا التحقيق يجب أن تتوافر فيه كافة الضمانات المختلفة لمن يتم التحقيق معه قبل توقيع العقوبة عليه وذلك لكي تقوم الجريمتين على اليقين والتثبت من ارتكاب المتهم للفعل المؤثم جزائياً أو تأديبياً.
ثانياً : أوجه الاختلاف بين الجريمتين المسلكية والجزائية:
إذا كان هناك أوجه شبه بين الجريمتين المسلكية والجزائية فان أوجه الخلاف بينهما ظاهرة أكثر وتتجلى في عدة أوجه:
1- من حيث أساس المسؤولية: ينحصر أساس المسؤولية الجزائية في الإخلال بواجب قانوني يكفله قانون العقوبات بنص خاص، أما المسؤولية المسلكية فأساسها الخطأ الوظيفي أي الإخلال بواجبات الوظيفة إيجاباً أو سلباً.
2- من حيث الوصف والتكييف: تستقل الجريمة الجزائية عن المسلكية في الوصف القانوني بمعنى أنه لا يجوز للسلطة التأديبية أن تتقيد في تكيفها للجرم المسلكي بقواعد وضوابط قانون العقوبات، ولكنها تستخلص الخطأ المسلكي ووصفه من جماع الوقائع التي تشكل جريمة مسلكية على نحو ما هو مفهوم في المجال الإداري، فيجب أن تقيم الإدانة على أساس الإخلال بواجبات الوظيفة أو الخروج على مقتضياتها وأن يكون تقديرها للجزاء الذي توقعه على أساس التدرج بحسب جسامة الذنب المرتكب، وليس على أساس الوصف الجزائي الوارد في قانون العقوبات أو الأركان المحددة للفعل في هذا القانون.
3- من حيث تحديد الجرائم والعقوبات: إذا كانت العقوبات المسلكية شأنها شأن العقوبات الجزائية محددة على سبيل الحصر فإنه على العكس لا يوجد حصر للجرائم المسلكية إذ أن أمر تقديرها يعود إلى السلطة التأديبية بخلاف الجريمة الجزائية التي تخضع لمبدأ المشروعية القائل” لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص ” الأمر الذي يستوجب تحديد الجرائم الجزائية مسبقاً.
4- من حيث هدف العقاب: تهدف المسؤولية الجزائية إلى مكافحة الجريمة وحماية أمن المجتمع ونظامه ووسيلتها في ذلك تقرير جزاء يوقع باسم المجتمع تنفيذاً لحكم قضائي ضد من تثبت مسؤوليته عن الجريمة، أما المسؤولية المسلكية فتهدف إلى كفالة حسن انتظام واطراد العمل في المرافق العامة ووسيلتها في ذلك عقاب الموظف الذي يخل بواجبات وظيفته، والجزاء التأديبي لا يمس الحياة أو الحرية بعكس العقاب الجزائي.
5- من حيث قيام المسؤولية: أشرنا ضمن أوجه الشبه بين الجريمتين إلى قيامهما على أساس الإثم، إلا أن هناك اختلاف يرتبط بذلك أيضا إذ أن الجريمة المسلكية يكفي لقيامها وجود الخطأ ولا يشترط حدوث ضرر على عكس الجريمة الجزائية التي تستوجب ارتكاب الخطأ الذي ترتب عليه ضرر إن لم يكن شخصي فعلى الأقل اجتماعي.
6- من حيث الجهة المختصة بتوقيع العقاب: لا توقع العقوبة الجزائية إلا بمقتضى حكم صادر عن محكمة مختصة من القضاء العادي، بينما يجوز توقيع الجزاء المسلكي من السلطة الرئاسية أو مجالس التأديب أو المحاكم المسلكية.
نخلص مما تقدم إلى أنه رغم وجود أوجه شبه بين الجريمتين المسلكية والجزائية إلا أن القاعدة هي استقلال الجريمة المسلكية عن الجريمة الجزائية إذ أن لكل منهما قواعد تحكمه وأهداف يسعى إلى تحقيقها، ولهذا فان الحكم بالعقوبة الجزائية لا يمنع الجهة التأديبية من محاسبة الموظف على ما يكون قد انطوى عليه الجرم الجزائي ذاته من مخالفات مسلكية.
ويترتب على استقلال كل من الجريمتين عن الأخرى عدة نتائج أهمها:
1- إن قيام الارتباط بين الجريمتين المسلكية والجزائية لا يخل باستقلال كل من الدعويين عن الأخرى، وذلك لأن المخالفة المسلكية هي أساساً تهمة قائمة بذاتها مستقلة عن التهمة الجزائية وهذا الاستقلال قائم حتى ولو كان ثمة ارتباط بين الجريمتين، لأن الفعل الواحد قد يكون مثاراً للجريمتين ولا يعد مجازاة العامل تأديبياً وجزائياً عن نفس الفعل من قبيل معاقبة الفاعل عن فعله مرتين وذلك لاختلاف أساس التجريم والمسؤولية بين الجريمتين.
2- إن القضاء التأديبي لا يرتبط بالحكم الجزائي إلا في الوقائع التي فصل فيها هذا الحكم وكان فصله فيها ضرورياً دون أن تتقيد بالتكييف القانوني لهذه الوقائع، بحيث قد يختلف التكييف من الناحية الإدارية عنه من الناحية الجزائية.
3- عدم خضوع الذنب الإداري لقاعدة لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص إذ لا يمكن حصر الذنوب التأديبية مقدماً على خلاف ما يجري عليه العمل في مجال الجرائم الجزائية في قانون العقوبات.
منقول