الطبيعة القانونية لمقرر حفظ الشكاية
مما لاشك فيه، أن معظم الأنظمة القانونية تخول للنيابة العامة بوصفها ممثلة للمجتمع، صلاحية تحريك الدعوى العمومية ضد كل شخص ارتكب جريمة من الجرائم بالنظر لما تحدثه من اضطراب داخل المنظومة المجتمعية.
يقوم نظام المتابعة الجنائية على مبدأين، الأول وبمقتضاه لا تملك النيابة العامة سلطة تقدير ملاءمة تحريك أو رفع الدعوى الجنائية، بحيث يتوجب على النيابة العامة بمجرد علمها بارتكاب جريمة ، تحريك الدعوى العمومية ضد الفاعل الأصلي (والمساهم أو المشارك إن وجدا) الذي نسبت إليه في المحضر أو الشكاية أو الوشاية، على اعتبار أن تقدير الأدلة متروك أمره إلى القضاء سواء كان قضاء التحقيق أو قضاء الحكم، وهذا المبدأ يعرف بشرعية المتابعة.
أما الثاني فبموجبه يتم تخويل النيابة العامة سلطة تقديرية في تحريك الدعوى العمومية من عدمها بناء على ما توفر لديها في المحضر أو الشكاية أو الوشاية، فإذا ارتأى نظرها تحريك المتابعة أحالتها على قضاء التحقيق أو قضاء الحكم، أما إذا قررت العكس فإنها تصدر مقررا بحفظ الشكاية أو المتابعة ضد من نسب إليه الفعل الجرمي.
وباستقراء موقف بعض التشريعات المقارنة يتضح جليا أنها تبنت المبدأ الثاني القاضي بتخويل النيابة العامة سلطة تقديرية في تحريك المتابعة أو حفظها، وفي هذا الصدد نصت المادة 61 من قانون الإجراءات الجنائية المصري على ما يلي:» إذا رأت النيابة العامة أن لا محل للسير في الدعوى، تأمر بحفظ الأوراق». كما ذهب قانون المسطرة الجنائية الفرنسي في التوجه نفسه من خلال الفصل 40-1 في فقرته 3 المعدل بمقتضى قانون رقم 204- 2004.
وفيما يخص المشرع المغربي فإذا كانت المادة 383/ من قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 الملغى لم يرد فيها مصطلح الحفظ، فإن القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية لسنة 2003 نص صراحة على هذا المصطلح، وعليه ففيما يخص وكيل الملك نصت الفقرة 4 من المادة 40 من القانون المتعلق بالمسطرة الجنائية «…يحيل ما يتلقاه من محاضر وشكايات ووشايات وما يتخذه من إجراءات بشأنها، إلى هيآت التحقيق أو إلى هيآت الحكم المختصة أو يأمر بحفظها بمقرر يمكن دائما التراجع عنه…» أما بالنسبة إلى الوكيل العام للملك فقد نصت الفقرة 5 من المادة 49 «…يحيل الوكيل العام للملك ما يتلقاه من محاضر وشكايات ووشايات وما يتخذه من إجراءات بشأنها، إلى هيآت التحقيق أو إلى هيآت الحكم المختصة أو يأمر بحفظها بمقرر يمكن دائما التراجع عنه…».
ومن منطلق المسؤولية الملقاة على عاتق النيابة العامة كجهاز قضائي لا يسعى إلى الإدانة، بقدر ما يسعى إلى تطبيق القانون، التطبيق السليم وتحقيق العدالة، فإنه يتعين على أعضائها توخي الحيطة والحذر في شأن المحاضر والشكايات والوشايات المحالة عليها، مع ملاءمة الإجراء للوقائع والأدلة بشكل يضمن حرية المواطن، علاوة على التزام الحياد والمصداقية في كل ما يقومون به من إجراءات.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية مقرر الحفظ الصادر عن النيابة العامة في شأن جريمة من الجرائم، على اعتبار أن عمل النيابة العامة يجمع بين ما هو إداري وآخر قضائي، الشيء الذي يدفعنا إلى طرح التساؤل حول طبيعته القانونية، هل يعتبر مقرر حفظ الشكاية مقررا قضائيا صادرا عن سلطة قضائية أم مقررا إداريا؟.
إن الإجابة على التساؤل المطروح المتعلق بالطبيعة القانونية لمقرر حفظ الشكاية يفرض علينا أولا وقبل كل شيء تحديد مفهومه. لذلك سوف نعالج في مبحث أول مفهوم مقرر الحفظ على أن نخصص المبحث الثاني لطبيعته القانونيــة
المبحث الأول: مفهـــوم مقرر الحفظ
إن تحديد مفهوم مقرر حفظ الشكاية من قبل النيابة العامة، يقتضي منا استعراض بعض الآراء سواء على المستوى الفقهي أو على المستوى القضائي.
أولا ـ التعريف الفقهــــي
في ظل غياب تعريف تشريعي لمقرر الحفظ الذي تصدره النيابة العامة، تصدى الفقه لهذه المهمة على اعتبار أن وضع التعاريف يدخل في صميم العمل الفقهي، لذلك كان من الطبيعي أن تتباين التعاريف الفقهية في هذا الصدد.
وفي هذا الإطار، ذهب بعض الفقه المصري إلى القول إن قرار الحفظ أمر يصدر عن النيابة العامة في واقعة سواء كانت جناية أم جنحة أم مخالفة، عقب جمع الاستدلالات، وقبل مباشرة أي إجراء من إجراءات التحقيق.
بينما عرفه البعض الآخر بأنه أمر إداري من أوامر التصرف في الاستدلالات، تصدره النيابة العامة لتصرف به مؤقتا عن إقامة الدعوى أمام محكمة الموضوع بغير أن يحوز أي حجية يقيدها.
وفي السياق نفسه اعتبر اتجاه آخر بأنه إجراء إداري تصدره النيابة العامة، بناء على محضر جمع الاستدلالات بمقتضاه تعدل النيابة العامة عن توجيه اتهام ورفع الدعوى العمومية نظرا لعدم صلاحيتها للسير فيها.
كما ذهب تعريف آخر إلى القول بأن مقرر الحفظ إجراء إداري يصدر عن النيابة العامة بوصفها السلطة الإدارية المهيمنة على جمع الاستدلالات، عملا بالمادة 61 من قانون الإجراءات الجنائية وما بعدها، ويجوز العدول عنه في أي وقت، ولا يقبل تظلما، أو استئنافا من المجني عليه أو المدعي بالحقوق المدنية.
وبموازاة ذلك، عرفه بعض الفقه الفرنسي بأنه أمر بعدم الملاحقة الجنائية للاعتبارات التي تقدرها النيابة العامة، يصدر منها بصفتها سلطة اتهام وهو لا يكسب حقا، ولا يحوز الحجية، ويجوز العدول عنه من ذات وكيل الجمهورية الذي أصدره أو بناء على أوامر الرؤساء.
انطلاقا من مختلف التعاريف أعلاه، الذي يبدو واضحا أن هناك جملة من الملاحظات تسترعي الانتباه، في جانب منها نلاحظ أنها تتوحد حول الجهة التي تصدر مقرر الحفظ حيث تختص النيابة العامة اختصاص حصريا بإصداره، وهذا يعني أنها استثنت قاضي التحقيق الذي لا يمكنه إصدار مقرر الحفظ، لأن هذا الأخير يتنافى مع مهمته القضائية، بيد أنه في جانب آخر منها طغى عليها طابع التباين، فالبعض ومن خلال تعريفه، أوضح الطبيعة القانونية للأمر بأنه إجراء إداري ولا يحوز الحجية فضلا عن إغلاق باب الطعن، أما البعض الآخر فيركز في تعريفه على نطاق الأمر بحصره قبل مباشرة أي إجراء من إجراءات التحقيق.
ثانيا ـ التعريف القضائــــي
من خلال إطلالة على ما صدر عن القضاء المقارن، نستشهد بقرار صادر عن محكمة النقض المصرية، إذ عرفت بموجبه مقرر الحفظ بقولها: «إن الأمر الصادر عن النيابة العامة بالحفظ هو إجراء إداري صدر عنها بوصفها السلطة الإدارية التي تهيمن على جمع الاستدلالات عملا بالمادة 61 إجراءات جنائية وما بعدها، وهو على هذه الصورة لا يقيدها ويجوز العدول عنه في أي وقت بالنظر إلى طبيعته الإدارية البحتة، ولا يقبل تظلما ولا استئنافا من جانب المجني عليه أو المدعي المدني…».
أما على مستوى القضاء المغربي نسجل القرار الصادر عن محكمة النقض (المجلس الأعلى سابقا) الذي جاء فيه ما يلي: «إن القرار الصادر عن ممثل النيابة العامة بحفظ الشكاية ليس بحكم قضائي متمتع بسلطة الشيء المقضي به وإنما هو تدبير إداري».
انطلاقا من التعاريف المومأ إليها أعلاه الفقهية والقضائية، يمكن أن نعرف مقرر حفظ الشكاية أو الملف بأنه أمر بعدم تحريك الدعوى العمومية صادر عن النيابة العامة باعتبارها سلطة اتهام ولا يحوز أي حجية، إذ يجوز العدول عنه متى ظهرت وقائع جديدة تبرر ذلك.
المبحث الثاني:الطبيعة القانونية لمقرر الحفظ
لا شك أن تحديد الطبيعة القانونية لمقرر الحفظ الصادر عن النيابة العامة ليس بالأمـر السهل، على اعتبار أن النيابة العامة تمارس في نشاطها اليومي والمحدد قانونا نوعين من الاختصاصات، اختصاصات ذات طبيعة قضائية كالأوامر الصادرة إلى الضابطة القضائية بإجراء الأبحاث التمهيدية، تحريك وممارسة الدعوى العمومية ومراقبتها، التدخل لحماية الحيازة، حماية الأحداث ضحايا الجنايات أو الجنح أو الموجودين في وضعية صعبة. وأخرى إدارية كزيارة الأماكن المعدة للحراسة النظرية، زيارة المؤسسات السجنية، تسخير القوة العمومية، ممارسة التعرض في مجال التحفيظ العقاري… وفق ما أكده القضاء الإداري حيث اعتبر أن النيابة العامة لها اختصاصات إدارية إلى جانب الاختصاصات القضائية، حيث قضت المحكمة الإدارية بأكادير في حكمها الصادر بتاريخ 14/02/2002:» إن النيابة العامة وإن كانت عضويا جزءا من السلطة القضائية أناط بها المشرع البحث في الجرائم طبق لقواعد المسطرة الجنائية، فإنها تقوم باختصاصات ولائية إدارية». حكم عدد 17 بتاريخ 14/02/2002. وفي حكم آخر للمحكمة نفسها جاء فيه:» إن المعايير التي تتمسك بها النيابة العامة لا تتناقض مع ما تتخذه هذه الأخيرة من قرارات ذات طبيعة إدارية ومنها فتح أجل جديد للتعرض بناء على الفصل 29 من الظهير المتعلق بالتحفيظ العقاري» حكم عدد 172 بتاريخ 20/05/2008.
ومن منطلق التداخل بين هذه الاختصاصات كان من الضروري التنقيب عن معيار ـ أو معايير ـ يتم على أساسه تكييف مقرر الحفظ هل يندرج ضمن الاختصاصات القضائية أم الإدارية؟ لأن القول عكس ذلك سيجعل هذا المقرر طليقا ولا يخضع لأي تكييف.
في واقع الأمر إن قانون المسطرة الجنائية المغربي ـ وعلى غرار القوانين المقارنة ـ لا يسعفنا في تحديد الطبيعة القانونية لمقرر الحفظ، لذلك كان من البديهي أن تتحرك أقلام الفقه في محاولة لتحديد هذه الطبيعة، وعدم وضوح النص القانوني والحالة هذه انعكس بشكل جلي على موقف الفقه الشيء الذي أفرز لنا تضاربا في الآراء.
وفي هذا السياق، ذهب جانب من الفقه إلى القول إن النيابة العامة حين تمارس سلطتها في جمع الاستدلالات فإن قرارها بالتصرف في هذه الاستدلالات ما هو إلا قرار إداري وليس عملا قضائيا، بينما اعتبره البعض الآخر بأنه إجراء إداري يصدر عن النيابة العامة بوصفها سلطة جمع استدلالات أما البعض الآخر فقد ذهب إلى القول بأنه إجراء إداري وليس له أية طبيعة قضائية، نظرا لأنه يصدر دون أن تكون النيابة العامة قد حركت الدعوى بإجراء من إجراءات التحقيق.
إعداد:ذ/ لحسن الزتوني ,بـــاحث فـي العلوم القانونيـــة