بعد ما رفع أمير المؤمنين حفظه الله الحاجز النفسي أمام المرأة المغربية لولوج مهنة التوثيق العدلي؛ أصبح كثير من المهتمين يتساءلون؛ولا سيما المعارضين؛ عن كيفية ممارسة المرأة المهنة في ظل القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة الذي لم يشر لا من قريب ولا من بعيد – حسب فهمهم – إلى مبدأ أحقية المرأة في تولي مهام العدول؛ ولا إلى المدى الذي يمكنهامزاولتها لها؛ وذهبوا إلى وجوب التدخل فورا إلى تعديل القانون من أجل ذلك.
لكن هل فعلا أن القانون المذكور لا يتيح للمرأة ولوج المهنة وأن تمارسها كما يمارسها الرجل العدل دون أي مانع أو عائق؟؛ وإذا كان يتيح لها ذلك فهل من حق المرأة العدل تلقي وتحرير كل أنواع العقود بما فيها الزواج والطلاق وما يلحق بهما؟؛ وإذا ثبت حقها في ذلك فهل يسوغ لها أن تتلقى العقود بمفردها إلى جانب شقيقها الرجل العدل؛ أم لابد من انضمام امرأة عدل أخرى إليها؟؛ وإلى أي حد يمكن الاكتفاء بوثيقة امرأة عدلة واحدة في كل أنواع العقود؟.
هذا من جهة أولى. ومن جهة ثانية فإنه ما موقع المرأة عموما من شهادة العامة؟ وأعني هل يجوز لها أن تكون شاهدة في اللفيف؟ وهل هناك مانع شرعي أو قانوني يحول دون قبولها في الشهادات المماثلة كشهادتها على الزواج المبرم ببلدية دولة أجنبية بالنسبة للمغاربة المقيمين بالخارج؛ وكشهادتها على بعض الوثائق الإدارية بمناسبة الزواج كشهادة الخاطب وشهادة العزوبة. ومن جهة ثالثة فهل ستعتبر وثيقة المرأة العدل وشهادتها من حيث القيمة الثبوتية والإثباتية مثل شهادة الرجل العدل ولا فرق؟ أم ستكون وثيقة المرأة لها قيمة ثبوتية أخرى؛ لا سيما عند التعارض والتحاجج والترجيح بين البينات؛ خاصة وأن الاجتهاد القضائي المغربي متشبع بما هو مبثوث في الفقه المالكي وبما راكمه في هذا الصدد من اجتهادات قضائية سابقة؟. وإذ أحاول الإجابة عن هذه الأسئلة وغيرها بإيجاز شديد ؛ فإني سأناقش الموضوع من وجهة نظر علمية محضة -شرعية وقانونية- وبكيفية صريحة ومباشرة دون أن أكون متأثرا في ذلك بأي ظرف أو إطار.
أولا: مناقشة مبدأ ولوج المرأة مهنة التوثيق العدلي:
من المعلوم أن مهنة التوثيق العدلي تمارس في بلدنا المغرب من طرف عدلين رجلين يقومان بتلقي الشهادات في سجل خاص وتحريرها في أوراق تقدم للقاضي المكلف بالتوثيق للخطاب عليها بعد تضمينها من طرف النساخ في سجلات خاصة تحفظ بأقسام قضاء الأسرة؛ بمعنى أن العدلين الرجلين يقومان بمهمة ازدواجية تتمثل في كتابة الشهادات أو العقود ثم يشهدان عليها؛ وهو أحد نظامي التوثيق العدلي؛ وأقصد نظام العدلين الشاهدين الكاتبين في آن واحد يعينان رسميا لذلك؛ دون أن يحتاج المتعاقدون الإتيان بالشهود من عامة الناس؛ على عكس النظام الآخر الذي هو نظام العدل الكاتب المعروف في دول المشرق العربي؛ والذي يقوم على أساس أن العدل الواحد يعين رسميا لهذه المهمة ويقوم فقط بعملية الكتابة والتوثيق دون أن يشهد على ذلك؛ وإنما الذي يقوم بعملية الإشهاد على العقود شخصان آخران من عامة الناس.
والأصل الشرعي في نظام العدلين الكاتبين الشاهدين في آن واحد؛ آيات قرآنية وأحاديث نبوية شريفة مثل قوله تعالى: وأشهدوا ذوي عدل منكم يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم… الآية .ومثل قوله صلى الله عليهوسلمد(لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل) .
أما الأصل الشرعي في نظام العدل الكاتب فقوله تعالى:وليكتب بينكم كاتب بالعدل … واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء؛ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى… الآية .
ونظرا إلى أن مهام العدل الكاتب الشاهد في آن واحد تتمثل في الكتابة والتوثيق ثم الإشهاد على المتعاقدين بما تتضمنه العقود؛ فقد تحدث عنه فقهاء الشريعة باعتباره شاهدا واشترطوا فيه شروط الشاهد؛ كما تحدثوا عنه باعتباره كاتبا وموثقا واشترطوا فيه شروط الموثق.
مع ملاحظة عامة يجب أن نستحضرها دائما ونحن نناقش هذا الموضوع؛ وهي أن إطلاق الشهادة على عمل العدول وقياس شهاداتهم الموثقة وفق شكل معين على أحكام الشهادة الشفوية المعروفة عند فقهاء الشريعة؛ هو من باب التساهل والتسامح؛ وإلا فإن هناك فروقا جوهرية بينهما .
ومن خلال استعراضنا للشروط التي اشترطها فقهاء الشريعة في الموثق ومنهم فقهاء المالكية الذين تطرقوا في كتاباتهم إلى شروط العدل الموثق بصفة عامة؛ نجدهم نصوا على شروط متعددة وصفات لابد للموثق – أي العدل – أن يتوفر عليها كما نصوا على آداب كثيرة؛ ولم يجعلوا منها شرط الذكورة؛ وذلك على أهمية هذا الشرط وعظم قدره في أدبيات علماء الفقه الإسلامي؛ وهذا ليس سهوا أو غفلة منهم؛ بل لأنهم كانوا مرتبطين دائما بالمرجعية والدليل والحجة والبرهان؛ ولم يجدوا نصا واحدا من الكتاب والسنة يوجب ذلك أو يشير إليه؛ وكانوا على علم تام بأن الذكورة ليست من الشروط ولا حتى من الآداب والصفات الأخرى.
وفي هذا الصدد يقول أبو إسحاق الغرناطي: ” وللموثق– أي العدل – ثمانية شروط وهي: أن يكون مسلما عاقلا مجتنبا للمعاصي؛ عدلا متكلما سميعا بصيرا يقظانا عالما بفقه الوثائق… إلى أن قال: فإن انخرم من هذه الشروط شرط واحد لم يجز أن يكتبها” .
وفي تبصرة الحكام لابن فرحون قوله: ” ينبغي للكاتب أن يكون فيه من الأوصاف ما نذكره وهو أن
يكون حسن الكتابة قليل اللحن عالما بالأمور الشرعية عارفا بما يحتاج إليه من الحساب والقسم الشرعية متحليا بالأمانة سالكا طرق الديانة والعدالة داخلا في سلك الفضلاء ماشيا على نهج العلماء الأجلاء” .
وفي تنبيه الحكام على مآخذ الأحكام لابن المناصف ما قوله: ” لا ينبغي أن ينتصب للكتابة إلا العلماء العدول كما قال مالك -رحمه الله تعالى – لا يكتب الوثائق بين الناس إلا عارف بها عدل مأمون في نفسه على ما يكتبه؛ لقوله تعالى:وليكتب بينكم كاتب بالعدل .وأما من لا يحسن وجوه الكتابة ولا يقف على فقه الوثيقة فلا ينبغي أن يمكن لذلك لكي لا يفسد على الناس كثيرا من معاملاتهم” .
إذن لم يشترط فقهاء الشريعة ومنهم فقهاء المذهب المالكي شرط الذكورة في الموثق باعتباره كاتبا للوثائق بين الناس؛ وكونهم لم يفعلوا ذلك دل على أن الشرع أو الفقه الإسلامي ترك الباب مفتوحا لإمكانية أن تتولى المرأة مهام الكتابة والتوثيق دون إشكال.
وإذا كان فقهاء الشريعة – كالمالكية- اشترطوا الذكورة في الموثق باعتباره شاهدا على بعض العقود كالزواج والطلاق؛ فإن هناك فقهاء آخرين لم يشترطوا هذا الشرط ولو تعلق بالزواج والطلاق وأجازوا شهادة المرأة على كل العقود بدون استثناء؛وذلك كما هو الأمر عند فقهاء الحنفية الذين يجيزون شهادة المرأة في الزواج والطلاق وما يلحق بهما كالنسب ، وكما عند ابن حزم الظاهري الذي يجيز شهادة المرأة حتى في الجراح والحدود والقصاص .
والملاحظ أن فقهاء المذهب المالكي ولأهمية بعض الشروط كالعدالة والأمانة والعلم؛ فقد كرروا اشتراطها في الموثق باعتباره كاتبا وفي الموثق باعتباره شاهدا؛ في حين لم يشترطوا الذكورة إلا في اعتباره شاهدا وفي بعض العقود وهي قليلة دون البعض الآخر وهي كثيرة؛ وهذا يبين أن هذا الشرط ليس شرطا أساسيا ودائما في كل العقود والمعاملات.
هذا عن الجانب الشرعي في مبدأ ولوج المرأة مهنة التوثيق العدلي باختصار؛ أما من حيث الجانب القانوني؛ فإن القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة؛ وتأسيسا على ما ذكر أعلاه؛ لم ينص هو الآخر على شرط الذكورة في تولي مهام العدول لا من قريب ولا من بعيد؛ وليس فيه ما يعيق ممارسة المرأة مهنة التوثيق العدلي شأنها في ذلك شأن الرجل العدل ولا فرق.
وإذا كان القانون المذكور يعبر في مواده دائما بالمذكر المفرد أو المثنى؛ ولم يورد ولو مرة واحدة التعبير بالمؤنث؛ من قبيل ” يشترط في المترشح لخطة العدالة: أن يكون مسلما …بالغا من العمر … متمتعا بحقوقه …؛ ومثل “يجب على العدل…” و ” يحق للعدل” و ” يجب على العدلين ” و” يحق للعدلين”؛ وغير ذلك مما ورد في نصوص هذا القانون.
قلت إن ذلك إنما يجري مجرى الغالب فقط؛ وإلا فإن المؤنث داخل في عموم لفظ المذكر؛ وليس هناك أي مفهوم بالضرورة لشرط الذكورة من عبارات المذكر؛ كما أنه ليس في الواقع العملي الذي يقصر المهنة على الرجل أي مانع من إشراك المرأة في هذا الواقع بعد أن تغيرت الأحوال وتبدلت الظروف؛ وإنما متع القانون بقوة الإلزام من أجل ضبط الناس وتغيير واقعهم؛ وكل قوانين المهن الشبيهة بهذا القانون تصدر بعبارات المفرد فقط؛ ولكنها تمارس من طرف المرأة أيضا؛ ولم يطالب أحد بالتنصيص فيها على المؤنث ليصبح للمرأة الحق في ممارستها؛ وذلك مثل مهنة المفوضين القضائيين ومهنة الخبراء القضائيين ومهنة التوثيق وغيرها من المهن الأخرى .
ولذلك فإنه من حق المرأة العدل أن تزاول مهنة التوثيق العدلي من الآن دون انتظار أي تعديل للقانون المذكور.
كل ما هناك أنه يمكن توجيه دورية مشتركة للسادة القضاة المكلفين بالتوثيق والقناصل العامين بقنصليات المملكة بالخارج؛ ولضباط الحالة المدنية بالداخل لإشعارهم -كل حسب اختصاصه- بأن الخطاب على الوثيقة العدلية سيظل كما هو وبنفس الصيغة وأن الوثيقة العدلية التي تنجزها المرأة العدل لا تختلف عن الوثيقة العدلية التي ينجزها الرجل العدل؛ وأن شهادة المرأة كشهادة الرجل في إنجاز الشهادات الأخرى.
وبطبيعة الحال فإن هذا الكلام سوف يغضب كثيرا من المهتمين والفاعلين الذين صدموا عند ما سمعوا نبأ الإعلان عن إمكانية فتح الباب للمرأة لولوج مهنة التوثيق العدلي؛ ولا شك أنهم سيصعقون بعد الاطلاع على هذا المقال وسوف لن يقبلوا به إطلاقا.
ومن هؤلاء الأستاذ خليل المودن الذي اتهمني بعدم العلم بفتاوى سابقة – لا علاقة لها بموضوعنا-… وبالحماسة والعجلة وبعدم الضبط والتحري في رأيي هذا ؛ وإذ أوضح بالمناسبة بعض المغالطات التي وقع فيها وسوء نيته في “التقاضي” والدفاع عن رأيه؛ فإنني في الحقيقة أبين لاتجاه كبير وعريض ممن هم غير متفقين إطلاقا مع مبدأ ولوج المرأة مهنة التوثيق العدلي؛ فضلا عن كيفية ممارستها لها.
فأقول وبالله التوفيق إن السيد خليل المحترم استدل على شرط الذكورة في ممارسة المهنة بثلاث آيات من القرآن الكريم؛ وهي قوله تعالى:وأشهدوا ذوي عدل منكم وقوله عز وجل:يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم .وقوله سبحانه: واستشهدوا شهيدين من رجالكم .
صحيح أن الآية الأولى والثانية وردتا بصيغة المذكر؛ ولكن هل إن كل آية قرآنية وردت بصيغة المذكر هي خاصة بالرجل؛ أم أنها شاملة للمذكر والمؤنث؟ الأخ الكريم يعلم أن جل الآيات القرآنية أو كلها ترد بصيغة المذكر ولكن المقصود بها المذكر والمؤنث؛ ولذلك يقول بعض علماء الشريعة إن امرأة عدلة ورجلا عدلا يقع عليهما ذوي عدل من المسلمين .
أما الآية الثالثة التي ورد في أولها ذكر الرجال فقد ورد فيها بعد ذلك ذكر النساء أيضا؛ وأقول للأخ الكريم لماذا جئت بجزء الآية التي فيها ذكر الرجال؛ ولم تأت بالجزء الآخر من الآية التي فيها ذكر النساء؟ أليس في هذا الصنيع سوء نية “التقاضي” وخرق مبدأ الموضوعية الذي يجب على الباحث العلميأن يحترمه؟.
وبالتالي فإنه إذا كان الرجل – المزكى – الذي يعين عدلا في إطار التوثيق العدلي بقرار لوزير العدل يستمد “شرعيته” من القرآن الكريم؛ فإن المرأة التي ستزكى وستعين عدلا بنفس الطريقة هي الأخرى ستستمد “شرعيتها” من القرآن الكريم ومن الآية نفسها؛ وهي قوله تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء؛… الآية . وإني أتعجب كل العجب من المعارضين – وهم كثر- حينما يستدلون بالجزء الأول من الآية في حق الرجل لممارسة المهنة وينتفضون ويدافعون؛ لكنهم يخرصون ويسكتون سكوتا مطبقا عن ذكر الجزء الآخر من الآية في حق المرأة لممارستها؟.
ولذلك فإنه ليس في وسع المخالفين والمعارضين -على الأقل – إلا أن يوافقوا من حيث المبدأ على حق المرأة في ولوج مهنة التوثيق العدلي؛ لأنها تستمد حقها وشرعيتها من نفس المصدر الذي يستمد منه الرجل حقه في ولوج المهنة؛ والاختلاف الذي يمكن أن يكون هو في التفاصيل وفي كيفية ممارستها لها؛ أما المبدأ فمحسوم بنص القرآن الكريم؛ ولا يجاحد في ذلك إلا من يضع يده على الآية الكريمة ويريد ألا يراها. واشتراط المالكية وغيرهم من فقهاء الشريعة الذكورة في الشهادة على بعض العقود وهي قليلة لا يعني اشتراطهم لها في كل العقود وهي كثيرة؛ ويمكنني الجزم بأن عدد العقود التي يشترط فيها علماء المالكية الذكورة والتي ما زال العمل جاريا بها لا تتعدى أصابع اليدين وهي الزواج والطلاق واعتناق الإسلام والنسب والوكالة في الزواج والطلاق ونحوهما والوصية والحبس لغير المعينين والإيصاء وإسقاط الحضانة؛ والأهم فيها هما الزواج والطلاق.
أما العقود التي لا يشترط فيها الذكورة فكثيرة منها البيع والهبة والصدقة والوصية بالمال للمعين والإقالة والمعاوضة والكراء ولإجارة والشركة والمعاوضة والمساقاة والمقارضة والجعل والسلف والنحلة والعطية والوقف للمعين وتسمية الصداق والصلح والتوليج والإقالة والوكالة على طلب المال والوصية بمالللمعين والرهن والمغارسة والإراثة والمقاسمةوالإقرار بالمال والشفعة وإسقاطها؛ وهذه العقود ما زالت تفرض نفسها على ساحة العمل والواقع وإن بكمية متفاوتة.
يضاف إلى ذلك كله أن عمل العدول اليوم يغلب عليه طابع الكتابة والتوثيق؛ أكثر بكثير من طابع الإشهاد والشهادة؛ حيث أضحت الوثيقة المحررة هي الفيصل في العقود وليس الشهادة كما كان في السابق.
وطريقة استدلال أخينا المذكور باشتراط الذكورة في هذه العقود الخاصة وتعميمها على سائر العقود؛ فيها نوع من التمويه بأن الذكورة شرط عام في الممارس للمهنة في كل العقود والشهادات؛ وهذا غير صحيح كما أوضحنا؛ ولا شك أن السيد خليل يعلم هذا حق العلم؛ ومع ذلك غض الطرف عنه طمعا في إقناع الرأي العام بموقفه الرافض.
ومن سوء حظ من يخالفنا في الرأي؛ أن اسم “العدل” باعتباره مصدرا يطلق في اللغة العربية على الرجل والمرأة على السواء؛ يقال رجل عدل ورجلان عدل ورجال عدل وامرأة عدل ونسوة عدل؛ فهو لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث باعتباره مصدرا؛ فإن رأيته مجموعا أو مثنى أو مؤنثا؛ فعلى أنه قد أجري مجرى الوصف الذي ليس بمصدر .
ولذلك فإني إن ثنيته أو جمعته في هذا المقال فعلى أنني أجريته مجرى الوصف لا المصدر؛ مع أن استعماله كمصدر هو الأصل وهو الذي ينبغي اعتماده بشكل دائم.
ثانيا: مدى اختصاص المرأة العدل في توثيق كل العقود بدون استثناء
إذا ثبت أن فقهاء الشريعة قاطبة لم يشترطوا في الموثق الذي يوثق للناس عقودهم ومعاملاتهم المختلفة شرط الذكورة؛ وأنه إذا كان بعضهم يشترط الذكورة في الشهادة على بعض العقود دون بعض كما ذكر أعلاه؛ وأنه إذا كان القانون المتعلق بالتوثيق العدلي ليس فيه أي مانع يمنع المرأة من تولي مهام العدول؛ وإذا تقرر أن من حقها أن تكون عدلا كالرجل؛ جاز لنا أن نتساءل عن المدى الذي يمكن فيه للمرأة العدل أن تتلقى وتحرر مختلف العقود والشهادات بدون استثناء.
وقد أشرنا قبل قليل إلى أن المذهب المالكي يشترط الذكورة في الموثق باعتباره شاهدا على بعض العقود كالزواج والطلاق؛ وأن هناك فقهاء آخرين لم يشترطوا هذا الشرط ولو تعلق الأمر بالزواج والطلاق وأجازوا شهادة المرأة على كل العقود بدون استثناء.
وهنا أكتفي بمناقشة أهم دليل شرعي يستند إليه فقهاء الشريعة الذين يشترطون الذكورة في الشهادة على بعض العقود كالزواج والطلاق والنسب؛ يتعلق الأمر بالخبر الذي رواه ابن شهاب الزهري حيث يعتبر أبرز دليل يمكن الاستدلال به في عدم قبول شهادة المرأة على عقود الزواج والطلاق وما يلحق بهما؛ وهو قوله عبر روايات مختلفة: ” مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم والخليفتين من بعده أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح ولا في الطلاق ولا في الحدود ” ؛ حيث يرى كثير من علماء الحديث أن هذا “الخبر” لا يرقى إلى أن يكون حديثا نبويا كسائر الأحاديث النبوية الصحيحة أو الحسنة؛ بل يقولون عنه إنه حديث مرسلأو منقطع ؛ وقد ورد من طريق إسماعيل بن عباس وهو ضعيف؛كما أنه خرج قول الزهري المذكور ابن أبي شيبة بإسناد فيه الحجاج بن أرطأة وهو ضعيف مردود عند كثير من العلماء؛ علاوة على أن “الحديث” منقطع لا تنهض به الحجة .وقال عنه الألباني “ضعيف” .
ومعلوم أن الحديث المرسل من أقسام الحديث الضعيف وليس حجة عند جماهير أهل الحديث ؛ لكن ذهب علماء آخرون إلى اعتباره والاحتجاج به على رأسهم إمامنا مالك واحمد ابن حنبل.
ولذلك فإن القرآن الكريم قد أجاز للمرأة أن تكون كاتبة: وليكتب بينكم كاتب بالعدل .وقد عمم ذلك ولم يخصصه بالرجل فقط؛ وأجاز لها أن تكون شاهدة نصا وروحا فقال تعالى: واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء؛ أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى… الآية ؛وبالتالي يرى هؤلاء العلماء بأنه لا يجوز تخصيص عموم الآية الكريمة بقول الإمام الزهري أو بحديث مرسل ومنقطع؛ومن ثم يجوز للمرأة أن تكون شاهدة على عقود الزواج والطلاق والرجعة وغيرها لعموم القرآن الكريم ولعدم ورود دليل ثابت يستثني الزواج والطلاق وما عطف عنهما؛ وهو ما يأخذ بها الفقه الحنفي وغيره على نحو ما ذكر أعلاه.
بل إن بعض الدول العربية والإسلامية كسوريا وليبيا تأخذ فعلا ومنذ مدة طويلة بشهادة المرأة في الزواج وفقا لرأي المذهب الحنفي في الموضوع؛ ونصت قوانينها في الأحوال الشخصية على إمكانية أن تكون المرأة شاهدة على عقد الزواج.
كما تم تعيين نساء ” كاتبات بالعدل أو مأذونات” منذ أربع أو خمس سنوات بعد ما أفتى شيخا الأزهر القديم والجديد بجواز تولي المرأة مهام مهنة المأذون الشرعي وهو نظام الكاتب بالعدل الذي أشرنا إليه في مطلع المقال.
ولذلك فإن المسألة خلافية -من حيث الجانب الشرعي والفقهي- حول المدى الذي يمكن للمرأة أن تكون شاهدة فيه ويمكن الأخذ بالآراء الأخرى من خارج المذهب المالكي التي تجيز للمرأة أن تكون موثقة لكل العقود الأخرى بما فيها الزواج والطلاق والنسب وغيرها.
وإذا رجعنا إلى القانون المتعلق بخطة العدالة أو إلى مدونة الأسرة سوف لا نجد نصا أو مقتضى يمنع المرأة العدل من تلقي وتحرير عقود الزواج أو الطلاق أو النسب أو غيرها؛ فمواد مدونة الأسرة عبرت ب”العدلين” دون تخصيص ذلك بالرجلين؛ ففي عقد الزواج مثلا نجد المواد 13-49-65-67 – وفي الطلاق نجد المادة 138؛ وفي النسب المادة 158؛ وفي تلقي رسم الإراثة وإحصاء التركة نجد المواد -252-377-394- قلت نجد كل هذه المواد تعبر بعموم “العدلين” وهو عام في الرجل والمرأة على اعتبار أنه إنما أجري مجرى الغالب الأعم فقط لا أنه خاص بالمذكر؛ ولأن الرجلين هما اللذان كانا يزاولان المهنة؛ وإلا فإنه ليس في مدونة الأسرة أي إشارة إلى شرط الذكورة. وقد ذكرنا قبل قليل أن اسم “العدل” كمصدر لغة يطلق على الرجل والمرأة؛ وأن امرأة عدلا ورجلا عدلا ينطبق عليهما قوله تعالى: ذوي عدل من المسلمين . وعلى فرض التسليم بأن مدونة الأسرة لم يرد بها نص بخصوص المرأة العدل الشاهدة الكاتبة وأنه يجب الرجوع إلى المذهب المالكي كما نصت على ذلك المادة 400 منها؛ قلت إن ذلك ليس على إطلاقه بل هو مقيد بتحقيق قيم الإسلام في العدل والمساواة.
ومن ثم فإن المرأة العدل من حقها قانونا أيضا أن تتلقى كل العقود بما فيها عقود الزواج والطلاق والنسب والإراثة وإحصاء التركة وغيرها من العقود والشهادات؛ وليس في القانون أي مانع يمنعها من ذلك.
ثالثا: مدى الاكتفاء بالمرأة العدل الواحدة إلى جانب شقيقها الرجل من أجل توثيق كل العقود
هذا إشكال آخر أو عقبة أخرى يجب البحث فيها ومناقشتها والإجابة عنها من خلال أحكام الشرع والقانون؛ ولحل هذا الإشكال وتفكيكه نعود مرة أخرى إلى السند الشرعي الذي اعتمدناه في أحقية ممارسة المرأة مهام التوثيق والشهادة وهو قوله تعالى:﴿وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا ياب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب … واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى…﴾” ؛ وسنرى من جهة أن الآية الكريمة – على مستوى الحق في التوثيق- عبرت بنكرة ﴿كاتب بالعدل… ولا ياب كاتب أن يكتب﴾والنكرة تعم كما هو مقرر عند علماء الأصول؛ وبالتالي فلفظ ” كاتب” يشمل الذكر والأنثى؛ وهذا الفهم لا يختلف فيه اثنان .
ومن جهة أخرى -وعلى مستوى الحق في الشهادة- أشارت الآية الكريمة إلى أن المراد بشهادة المرأة التي يتصور فيه الضلال والنسيان؛ هي الشهادة التي تتحمل بواسطة الذاكرة والعقل وتبقى حبيسة ذهن المرأتين وعقلهما زمانا قد يطول تحملها وقد يقصر؛ إلى وقت الحاجة إليها وأدائها؛ فتطلب المرأتان بعد حين إلى أداء شهادتهما أمام القاضي الذي يحكم في الدعوى للحكم بمقتضاها والعمل بموجبها؛ وليس أمام قاض للتوثيق أو أمام عدل موثق؛ بمعنى الشهادة التي تتحمل بالذاكرة والعقل بهدف الرجوع إليها؛ أو عن غير قصد بحيث تصل إلى علمها عن طريق “الصدفة”؛ وهي التييسميها فقهاء الشريعة بالشهادة الاسترعائية؛ والتي تسمى عند فقهاء القانون بشهادة إثبات الوقائع؛ ويمكن تسميتها بشهادة الحكم والقضاء؛ وبالتالي فهذه الشهادة هي التي يتصور فيها أن تضل إحدى المرأتين فتنسى شهادتها وتحتاج إلى امرأة أخرى -كانت قد تحملتها معها قصدا أو صدفة- لتذكرها؛ ومن ثم فإن هذه الشهادة هي التي يجب أن يشهد فيها رجلان أو رجل وامرأتان طبقا للآية الكريمة.
أما الشهادة التي تتلقى في الحين في وثيقة عدلية ثابتة الأركان والشروط والضوابط وتوقع من طرفها ومن طرف أشخاص آخرين إلى جانبها؛ وتكتب وتحرر وتوقع وتستقل بنفسها وتحفظ في سجلات متعددة وتبقى محفوظة محصنة في أماكن عدة؛ وقد عززتها الدولة وأعطتها القوة والصبغة الرسمية؛قلت هذه الشهادة لا يتصور فيها أي ضلال أو نسيان؛ سواء كان كاتبها أو الشاهد فيها رجلا أو امرأة؛ بقي موثقها أو الشاهد فيها متوفرا على شروط المروءة والشهادة أو فقدها بعد إنجازها؛ بقي ممارسا أو عزل وشطب عليه؛ بقي على قيد الحياة أو توفي؛ ففي كل الأحوال تبقى هذه الشهادة الموثقة مؤمنة من كل ضلال أو نسيان أو جحود؛ ما دامت استقلت عن ذهن العدل الكاتب الموثق والشاهد وكل من ساهم فيها منذ لحظة إنشائها وتحريرها؛ وبالتالي لا حاجة في قبولها والعمل بمقتضاها إلى امرأة ثانية لتذكر الأولى.
وهذه الشهادة يمكن اعتبارها من الشهادات التي تسمى عند فقهاء الشريعة بالشهادة الأصلية؛ والتي تسمى عند فقهاء القانون بالشهادة على التصرفات والمعاملات؛ ويمكن تسميتها بشهادة التوثيق؛ وهي بمجرد التوقيع عليها من قبل الأطراف تستقل عنهم جميعا؛ وتصبح الوثيقة هي الناطق الوحيد بما تضمنته من اتفاقات والتزامات وبنود؛ ولا محل فيها لأذهان أطرافها وعقولهم بعد التوثيق والتوقيع والحفظ والتحصين.
ومن ثم فإن علة الحاجة إلى شهادة امرأتين اثنتين إلى جانب عدل رجل الواردة في قوله تعالى وهي: ﴿أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾ ؛ تنتفي في شهادة التوثيق والتحصين؛ ومعلوم أن الحكم الشرعي يدور مع علته وجودا وعدما كما يقرر فقهاء الشريعة؛ فمتى وجدت العلة وجد الحكم؛ ومتى انتفت العلة انتفى الحكم ؛ لا سيما وأن هذه العلة نص عليها الله سبحانه وتعالى بصريح العبارة؛ فهي ليست مجرد حكمة أو معنى أو من الأسرار التي تحتاج إلى مجهود لإدراكها.
وفي مساواة شهادة المرأة بشهادة الرجل إذا أمن النسيان والاضطراب يقول الفقيه ابن تيمية: ” قوله تعالى: ﴿ فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾ ؛ فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت؛ وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة وهو النسيان وعدم الضبط؛ … إلى أن قال فعلم بذلك أن عدل النساء بمنزلة عدل الرجال؛ وإنما عقلها ينقص عنه؛ فما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة لم تكن فيه على نصف رجل…”
وبالتالي يمكن الاكتفاء بشهادة امرأة عدل واحدة إلى جانب شهادة عدل رجل واحد؛ في مجال التوثيق العدلي.
بل ويمكن الاكتفاء بشهادة امرأتين عدلتين منفردتين دون رجل؛ لأننا نكون أمام وثيقة مكتوبة محفوظة مؤمنة من كل نسيان واضطراب؛ ومعلوم أن المذهب المالكي يجيز شهادة المرأتين في كل موضع قبلت فيه شهادة العدل الرجل الواحد؛ بحيث قبلوها سواء كانتا منفردتين عن الرجال أو معهن” . بمعنى أنه يسوغ أن تشهد المرأة العدل مع الرجل العدل أو مع المرأة العدل ولا فرق.
وعن مبدأ جواز قبول شهادة المرأة مع المرأة دون رجل ولو كان موجودا في الزمان والمكان نفسه؛ يقول ابن العربي:” قال علماؤنا قوله تعالى: فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان من ألفاظ الإبدال؛ فكان ظاهره يقتضي ألا تجوز شهادة النساء إلا عند عدم شهادة الرجال، كحكم سائر إبدال الشريعة مع مبدلاتها، وهذا ليس كما زعمه؛ – لعله يقصد من يخالفه في الرأي – ولو أراد ربنا ذلك لقال: فإن لم يوجد رجلان فرجل؛ فأما وقد قال: فإن لم يكونا؛ فهذا قول يتناول حالة الوجود والعدم” .
ونحا الفقيه القرافي منحى آخر؛ حيث قال:” إن معنى الآية أنهما يقومان مقام الرجلين في الحكم بدليل الرفع؛ ولو كان المراد ما ذكرتم- لعله يخاطب المخالفين للمذهب أيضا- لقال: فرجلا وامرأة بالنصب لأنه خبر كان؛ ويكون تقديره: فإن لم يكن الشاهدان رجلين؛ فيكونان رجلا وامرأتين؛ فلما رفع على الابتداء كان تقديره: رجل وامرأتان يقومان مقام الشاهدين فحذف الخبر ” .
ولذلك وعلى رأي الفقيه ابن العربي تستوي شهادة المرأةالعدل وشهادة الرجل العدل الواحد مع المرأتين العدلتين – في الأموال أو ما يؤول إلى المال حسب الفقه المالكي-؛ وبالتالي فأي الشهادتين أقدم عليها صاحب الحق المالي بالأصل أو بالمآل كفته في إثبات حقه وقضي له بموجبها؛ بخلاف بعض باقي الفقهاء الذين لا يجيزون شهادة المرأة إلا مع الرجل.
وتأسيسا على ما ذكره ابن العربي والقرافي ؛فإنه للمتعاقدين الخيار بين أن يشهدوا المرأة العدلة أو المرأتين العدلتين؛ أو أن يشهدوا الرجلين العدلين؛ بمعنى جواز إشهاد النساء العدول بمفردهن دون الرجال العدول؛ ولو كان الرجال موجودين في الزمان والمكان.
رابعا: شهادة المرأة العدل الواحدة أو العدل الرجل الواحد
مسألة شهادة العدل الرجل الواحد مع يمين المشهود له هي من حيث المبدأ مقبولة عندجمهور فقهاء الشريعة؛ إذ ذهب الإمام مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وآخرون إلى قبولها والحكم بمقتضاها في المال أو فيما يؤول إلى المال، وهذا الرأي مروي عن الصحابة رضوان الله عليهم، منهم أبو بكر وعمر وعلي وأبي بن كعب وعدد كثير من غير مخالف .
وذهب أبو حنيفة وآخرون إلى عدم قبولها في أي مسألة من المسائل مالية كانت أو بدنية .
ولئن كان جمهور القائلين بجواز شهادة العدل الواحد مع يمين المشهودله؛ على أنها إنما تقبل في المال أو ما يؤول إلى المال؛ فإن منهم من يرى أنها تقبل في كل شيء ما عدا الحدود كابن حزم الظاهري؛ الذي قال عقب ذكره الأحاديث والآثار الدالة على الجواز:” فهذه آثار متظاهرة لا يحل الترك لها؛ فالواجب أن يحكم بذلك في الدماء والقصاص والنكاح والطلاق والرجعة والأموال حاشا الحدود؛ لأن ذلك عموم الأخبار المذكورة ولم يأت في شيء من الأخبار منع من ذلك؛وأما الحدود فلا طالب لها إلا الله تعالى ” .
ومنهم أيضا ابن قيم الجوزية الذي رأى أنه ليس في حديث القضاء بالشاهد واليمين؛ أن ذلك جائزا في الأموال خاصة؛ والتخصيص الوارد في بعض رواياته إنما هو قول قاله عمرو ابن دينار؛ ودعا إلى مزيد من البحث في تحقيق المناط؛وإجراء القياس عند الاقتضاء في غير الأموال لتعطى نفس الحكم وتثبت بالشاهد واليمين.
بل وأكثر من ذلك فابن قيم الجوزية يرى أنه يمكن قبول شهادة العدل الواحد في كافة الحقوق إن ظهر صدقه ولو بدون يمين المشهودله؛ واستدل على ذلك بوقائع قبل فيها النبي صلى الله عليه وسلم شهادة رجل واحد بدون يمين المشهود له؛ منها:
– قبوله عليه الصلاة والسلام شهادة العدل الواحد لأبي قتادة بقتل مشرك وحكمله بموجبها فدفع إليه سلبه دون أن يحلف أبا قتادة؛ وذلك عملا بقوله صلى الله عليه وسلم: (من قتل قتيلا له عليه بينة فله سلبه) .
– قبوله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بن ثابت وحده بمبايعته الفرس للأعرابي جاعلا شهادته بشهادة رجلين .
– قبوله عليه الصلاة والسلام شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان؛ وقبوله شهادة أمة سوداء وحدها على الرضاعة .
غير أن علماءنا لم يعدوا مثل هذه الشهادات من الأحكام التي تجرى عليها أحكام الشهادة بمعناها الخاص؛ وإنما عدوها من باب الخبر والرواية؛ وهي من الأمور التي يستند فيها الشاهد إلى تجربته وخبرته؛ مثلها مثل شهادة الطبيب والقائف والترجمان والكاشف عن البينات والبيطار ؛ وهو اعتبار قد لا يستقيم مع شهادة العدل الواحد المحكوم بموجبها لأبي قتادة؛ كما لا ينسجم مع شهادة الأعرابي وحده على رؤية هلال رمضان؛ لأن الشاهدين لم يعتمدا في شهادتيهما تلك على خبرتهما وتجربتهما؛ وبالتالي فإن هذا التكييف وهذا التأويل غير مسلم تمام التسليم؛ وهو ما ذهب إليه الفقيه محمد الحبيب التجكاني .
وبطبيعة الحال فإن كلام فقهاء الشريعة المذكور هو دائما عن الشهادة الشفوية التي تؤدى أمام القاضي وهي التي كانت متاحة لدى كل الناس في الماضي؛ وليس عن الشهادة التي تكتب في إطار نظام التوثيق العدلي وفق المشار إليه أعلاه.
وإنما نسوق كلام الفقهاء للتأصيل والتأسيس عليه من حيث المبدأ والاستئناس به في بلورة ما يناسب وقتنا وزماننا؛ ولذلك فإنه ما دام مبدأ قبول شهادة العدل الواحد بدون يمين مقبول عند جمهور فقهاء الشريعة؛ وما دام أن علة الضلال والنسيان بالنسبة للمرأة غير موجودة ولا تتصور في إطار نظام التوثيق العدلي كما قررنا؛ فإنه يمكن قبول شهادة العدل الواحد سواء كان رجلا أو امرأة دون انضمام عدل آخر إليه.
وقد نص القانون رقم 16.03 المتعلق بخطة العدالة على إمكانية تلقي العدل الواحد للشهادة العدلية؛ غير أنه نص على قيود واستثناءات وشكليات خاصة لهذه الإمكانية؛ وبالتالي يمكن للمشرع أن يرفع هذه القيود والاستثناءات ليصبح التلقي وتحرير العقود العدلية دائما بطريقة انفرادية؛ سواء تعلق الأمر بالعدل الرجل أو بالعدل المرأة.
خامسا: موقع المرأة عموما في شهادة اللفيف وفي غيرها من الشهادات العدلية.
الأصل في الشهادة أنها لاتقبل إلا من الشهود الذين تتوفر فيهم شروطها المعتبرة شرعا، وأهمها شرط العدالة الذي يعتبر بحسب الزمان والمكان والأحوال؛ غير أنه قد تدعو الضرورة إلى إشهاد من لا تتوفر فيهم هذه الشروط؛ وقد توجد الشهادة عند أناس لا تتوفر فيهم صفة العدالة، وعندها إما أن تقبل هذه الشهادة على علتها؛ وتقام الأحكام فتحفظ الحقوق والأموال والأعراض؛ وإما أن يتمسك بشرط العدالة المنعدم فتتعطل الأحكام وتضيع الحقوق، ولا شك أن المصلحة العامة تقتضي قبول هذه الشهادة؛ إذ أن إعمالها خير من إهمالها.
وعملا بذلك ذهب فقهاؤنا إلى العمل بشهادة غير العدول في أحوال معينة وبشروط خاصة، وبضوابط محددة، وأجروا العمل بها منذ زمن بعيد، ونصوا على الأخذ بها والحكم بموجبها؛ واستمر العمل بها إلى اليوم، وقد اصطلح علماء المذهب المغاربة والأندلسيين على تسميتها ب ” شهادة اللفيف “.
فيما يخص تلقي المرأة العدل لشهادات اللفيف؛ فإنه لا إشكال فيه لا سيما وأن الرجل العدل نفسه يتحول دوره في شهادة اللفيف من عدل شاهد إلى مجرد كاتب وموثق لما يصرح به شهود اللفيف؛ وهو لا يشهد إلا على كون الشهود حضروا عنده وشهدوا بما شهدوا به؛ أما موضوع الشهادة وجوهرها فيشهد به شهود اللفيف.
وفيما يتعلق بشهادة المرأة غير العدل في شهادة اللفيف؛ فيمكن القول بأن جل علماء المذهب المالكي -المغاربة خاصة-؛ لم يصرحوا باشتراط الذكورة في شهود اللفيف؛ لكن ظاهر كلامهم يفيد أنها لا تجوز إلا من الرجال؛ وهو ما جرى به العمل إلى الآن؛ كما أن القليل منهم صرح بهذا الشرط -ما لم يكن النسوة مزكيات-؛ غير أن عددا آخر من الفقهاء أشاروا إلى جواز شهادة النساء في اللفيف .
وممن استبعد شهادة النساء في اللفيف؛ القاضي العربي بردلة الذي سئل عن نحو اثنتي عشرة امرأة شهدن في استحقاق بعض الأصول ومعهن ثلاثة رجال، فهل تقبل شهادتهن من غير تزكية وتتنزل شهادتهن منزلة اللفيف؛ أو لابد من التزكية؟ فأجاب: ” لمأر من تعرض للمسألة ولا من حكم بذلك ممن شاهدنا؛ ولا من تعرض لذلك بالإهمال والرد، ويظهر لي أنه لابد من التزكية، والله أعلم ” .
ومثل ذلك في جواب لابن إبراهيم الدكالي- مفتي فاس سابقا- الذي قال: ” لا يقضى بشهادة اللفيف من النسوة وإن كن مائة؛ وإنما يقضى بشهادة من زكي منهن في المال وما يؤول إليه ” .
وممن صرح بشرط الذكورة في شهود اللفيف والد شيخنا الفقيه أبو الشتاء الصنهاجي في نظم له في الموضوع؛ نأخذ منه ما يتعلق بالغرض؛ حيث قال فيه:
شهادة اللفيف كالعــدلين ** جرى بها العمل دون مين
بشرط أن يكون من رجال ** لا من نساء فافهمن مقالي
غير أنه بالرجوع إلى نصوص سابقة في المذهب؛ يتبين جواز شهادة النساء في اللفيف؛ فقد أورد القاضي ابن فرحون نصوصا يفهم منها قبول شهادة المرأة في اللفيف؛ خاصة في الأمور التي لا يطلع عليها الرجال عادة؛ وذكر أن هذا هو مشهور المذهب ورأى أنه حسن؛ حيث قال في هذا الصدد: ” وأجازوا شهادة السماع في الضرر بين الزوجين بشهادة اللفيف من الناس والجيران وإن كانوا غير عدول.قال: (المتيطي) وهو المشهور. وأجازوا في الشهادة في الرضاع أن يشهد العدول على لفيف القرابة والأهلين والجيران؛ وإن لم يكونوا عدولا كالنساء والخدم؛ أنه اتصل عندهم أن فلانا أرضعته فلانة؛ وهذا هو المشهور من المذهب وهو حسن؛ لأنه لا يحضره الرجال في الأغلب؛ ولا يعتني الأهلون بإحضار عدول النساء”.
ويبدو من خلال هذا النص أن شهادة اللفيف من النسوة جائزة ومقبولة من حيث المبدأ عبد فقهاء المذهب المالكي؛ شأنها في ذلك شأن شهادة الرجال؛ لا سيما في الأمور التي لا يحضرها الرجال غالبا؛ كما يشير النص على أن النساء كالرجال في الشهادة؛ شاهدات في اللفيف وهن من عامة النساء؛ وشاهدات عدلات وهن من المزكيات المعدلات.
وقد أطلق الفقيه عمر الجيدي في تعريفه السابق لشهادة اللفيف في جنس الشاهد في اللفيف ولم يخصصها بالرجال فقط؛بل إن الفقيه محمد الحبيب التجكاني صرح في تعريفه لشهادة اللفيف بإمكانية أن تكون من الرجال والنساء على حد سواء؛ وتقبل في جميع المجالات.إذ يقول: ” هي شهادة جماعة غير مزكين وغير معروفين بالعدالة؛ وبالتالي غير منتصبين للشهادة من الرجال والنساء؛ الذين لم يعرفوا بالفسق كالزنا وترك الصلاة؛ يشهدون إما في الأموال وإما في غير الأموال؛ كالنسب والجنايات؛ ويعمل بهذه الشهادة للضرورة حيث ينعدم الشهود العدول ” .
وعلى الرأي القائل بعدم جواز شهادة اللفيف من النساء؛ فالأمر يتوقف – بحسب ظاهر النصين الفقهيين السابقين- على مجرد تزكية الشاهدات في اللفيف؛ ومتى زكيت النسوة قبلت شهادتهن فيه؛ ونظرا إلى أن العمل بنظام التزكية لم يعمل به في شهادة اللفيف من الرجال في مراكش إلا قليلا حسبما كان يجري به العمل في الزمن الماضي؛ ولم يعمل به في غيرها من المناطق المغربية؛ ومع ذلك قبلت شهادة الرجال في اللفيف من دون تزكية؛ فكذلك ينبغي قبول شهادة النساء في اللفيف؛ ولو بدون تزكية .
هذا وقد ذهب الاجتهاد القضائي المغربي إلى قبول شهادة المرأة ومساواتها لشهادة الرجل في شهادة التلقية؛ حيث رد المجلس الأعلى – محكمة النقض حاليا- على طاعن في شهادة تلقية بأن الشهود فيها غير ذكور؛ بأن: ” التلقية المذكورة مشتملة على النصاب المساوي لشهادة العدل الواحد؛ ما دامت مجرد تلقية متممة للقرينة العرفية المعتبرة شاهدا؛ كما أن شهادة ست نسوة بها لا يضرها ما دام النصاب الشرعي المطلوب تاما ” .
هذا مع التذكير بأن شهادة المرأة العدل جائزة ومقبولة بحسب الفقه المالكي في المال أو ما يؤول إلى المال؛ وبحسب الفقه الحنفي تقبل شهادة المرأة في المال وما يؤول إليه؛ وفي البدن كالزواج والطلاق وما تعلق بهما؛ دون الحدود والقصاص؛ كما أنها مقبولة في كل شيء عند الظاهرية حتى في القصاص والجراحوالحدود كما سبقت الإشارة.
كما أن القانون المنظم للتوثيق العدلي لا ينص أصلا على شهادة اللفيف لا من قريب ولا من بعيد؛ فضلا عن أن ينص على شروط خاصة بالرجل أو بالمرأة؛ وبالتالي ينبغي العمل بقاعدة “الأصل في الأشياءالإباحة “؛ مما يعني فتح المجال للمرأة عامة للشهادة في اللفيف شأنها شأن الرجل؛ لا سيما وأن بعض الفقهاء ذهبوا إلى أن العبرة في شهادة اللفيف، ينبغي أن تكون لما تفيده من غلبة الظن بصدق الشهود في شهادتهم؛ وأن الشأن في ذلك يرجع إلى نظر القاضي واجتهاده؛ فهو الذي عليه أن يقدر الشهادة ويختبر شهودها بحسب القرائن والأحوال .
وإذن فليس هناك مانع – لا شرعا ولا قانونا – من اعتماد شهادة اللفيف من النسوة إذا دعت الضرورة إلى الأخذ بها؛ وإذا عملنا بها فسوف لن نبتعد عما قرره فقهاؤنا، بل نكون قد اقتربنا من ذلك أكثر؛ لا سيما وأن المرأة اليوم خرجت للدراسة والعمل خارج البيت كالرجل؛ وبإمكانها تحصيل العلم ومعرفة الكثير من الأمور التي تدعو الحاجة إلى إشهادها فيها.
وما قيل في شهادة اللفيف يمكن أن يقال عن شهادة المرأة عموما؛ لا سيما في العقود التي تدعو الحاجة إليها كشهادتها في المهجر على ملحق الزواج المبرم طبقا لإجراءات بلد الإقامة بالنسبة للمغاربة المقيمين بالخارج؛ لأنه إذا كانت مدونة الأسرة قد أجازت هذا الزواج الذي يحرر ويوثق من طرف رجل أو امرأة غير مسلمة أصلا؛ فلأن تقبل شهادة المرأة المسلمة أولى وأحرى؛ ومعلوم أن الذي يوثق عقد الزواج هو كاتب وشاهد بالضرورة على بعض أركانه وشروطه؛ وأيضا مثل شهادتها على إعداد بعض الشهادات الإدارية كشهادة الخطوبة والعزوبة وشهادة عدم الزواج.
وإذا تلقت المرأة العدل شهادتها وحررت وثيقتها وفق الكيفية المنصوص عليها في القانون فإنها ينبغياعتبارها وثيقة رسميةتامة مثلها مثل شهادة الرجل العدل ولا فرق؛ وأنه عند التعارض والتحاجج والترجيح بين الحجج والبينات؛ ينبغي ألا ينظر إلى وثيقة المرأة على أنها ناقصة من حيث الثبوت أو الإثبات ؛ ولا شك أن القضاء سيتفاعل مع هذا المستجد؛ بل وإنه قد استبق الموضوع وأصدر قرارات جريئة كما في شهادة التلقية التي تمت من طرف النساء فقط المشار إليها أعلاه؛ وكما في الاجتهاد الصادر عن محكمة الاستئناف بالدار البيضاء بخصوص شهادة المرأة على الزواج المبرم ببلد الإقامة بالنسبة للمغاربة المقيمين بالخارج حيث اعتبرت شهادة المرأة كشهادة الرجل ولا فرق؛ وبذلك بغض النظر عن مآل هذا الاجتهاد أمام محكمة النقض .
بناء على ما ذكر أعلاه؛ يتبين أن ممارسة المرأة لمهنة التوثيق العدلي هي مسألة خلافية من حيث المبدأ ومن حيث التفاصيل؛ وباعتماد اجتهادات فقهية من داخل المذهب المالكي ومن خارجه؛ ولكون القانون لا ينص على شرط الذكورة؛ وحيث إن الشهادة في التوثيق ليست هي الشهادة في الحكم والقضاء؛
يكون من حق المرأة ولوج مهنة التوثيق العدلي ومن حقها تلقي وتحرير كل العقود والشهادات بدون استثناء بما فيها عقود الزواج والطلاق والنسب وغيرها؛
وأن تمارس المهنة رفقة شقيقها العدل الرجل أو رفقة شقيقتها المرأة العدل في حالة الإبقاء على التلقي الثنائي؛ أو أن تزاول المهنة بمفردها إذا ما تم اعتماد التلقي الفردي شأنها في ذلك شأن الرجل العدل أيضا ولا فرق؛ وأنه من حقها أن تكون موثقة لشهادة اللفيف وشاهدة فيها وفي غيرها من الشهادات الأخرى.
منقول