تدهور الأمن الإجتماعي بالمغرب بين مسؤولية القضاء وباقي الأجهزة الأمنية
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا).
يمكن القول بأنّ مفهوم الأمن قد عرف تطورا ملحوظا عبر التاريخ، حيت ظهر بداية كمفهوم يقتصر على دور الدولة في توظيف إمكانياتها البشرية واللوجيستيكية في الدفاع عن وحدتها الترابية واستقلالها السياسي ودرء الأخطار التي تتهددها من الخارج والدّاخل. هذا المفهوم الضيق للأمن والذي انطلق مع المدرسة الواقعية التي نهلت في تناولها للموضوع من ظروف الحرب الباردة، ويظهر ذلك جليا في تعريف المفكر “أرنولد وولفرز للأمن” حين يقول أنه في جانبه الموضوعي يعني “غياب أية تهديدات اتجاه قيم مكتسبة، وفي جانبه الذاتي يعني غياب الخوف من أن يتم المساس بأي من هذه القيم”.
وإذا رجعنا لتاريخ بداية تبلور مفهوم الأمن، نجده قد بنى نظريته على خلفيات ما كان يشهده العالم من صراع خلال فترة الحرب الباردة، وخاصة مخاوف الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها من المدّ السوفياتي بما يحمله هذا المدّ من فكر شيوعي. وبالتالي يمكن القول أنّ عنصر الحياد الذي كان يجب توفره في البحث الفكري والمعرفي، قد غاب في تلك الفترة.
ولعل هذا الشرخ الذي أصاب الحقل الفكري والمعرفي في إحاطته بمفهوم الأمن، قد مهّد الطريق لظهور اتجاه فكري جديد، هو الاتجاه ما بعد البنيوي “Post-structuralism ” إذ لم يعد مفهوم الأمن مقتصرا على حماية الدولة لكيانها من التهديدات الخارجية، بل انتقل إلى ضرورة اهتمام الدولة بأمن أفرادها ومجموعاتها وضمان رفاهيتهم واستقرارهم.
قد يقول قائل أننا من خلال هذه التوطئة قد حدنا عن صلب الموضوع، الذي هو “تدهور الأمن الاجتماعي بالمغرب بين مسؤولية القضاء وباقي الأجهزة الأمنية”، ولهؤلاء نوضح أنّ هذه التوطئة تعتبر لبّ وجوهر الموضوع، إذ أنّ ما يشهده المغرب في السنوات الأخيرة من اختلالات أمنية في المجتمع، هو نتاج استمرار المغرب في تبني نظرية الأمن الكلاسيكية، والتي أشرنا إلى كون الدول التي تبنتها آنذاك واعتمدتها، كانت تنظر إلى الأمن على أنه ينحصر في حماية الدولة لحدودها وسيادتها من التهديدات الخارجية، وضمان استمرار سلطتها على كامل حدودها الترابية فقط، في الوقت الذي انتقلت فيه أغلب الدول المتقدمة إلى اعتماد نظرية الأمن الحديثة، التي تعتبر أن أمن الأفراد والجماعات الاقتصادي والاجتماعي والفكري والروحي، هو ركيزة وضمان أمنها القومي.
إنّ ما غاب عن فكر أصحاب الحل والعقد في المملكة المغربية هو أن الأمن القومي للدولة لا يمكن فصله بتاتا عن الأمن الإنساني للأفراد، من حق في العيش الكريم والسكن والتعليم والصحة وحرية التعبير ودمقرطة آليات انتخاب أجهزة الدولة وسلطها.
بعد أن تطرقنا إلى عوامل تدهور وتصدع الأمن الاجتماعي بالمغرب من زاويتها الفكرية والمفاهيمية، سنعرج فيما سيأتي من مقالنا هذا، على دور المؤسسات الحيوية الثلاث: القضاء، الأمن الوطني، والمؤسسات السجنية في هذا الاختلال والتصدّع للسلم الاجتماعي.
لا يختلف إتنان على انّ القضاء يعتبر الضامن الرئيسي لسيادة القانون في أي مجتمع من المجتمعات، القانون الذي هو بميثاق تعاقد بين جميع مكونات المجتمع، ومن خلاله يتم تحديد جميع الضوابط التي تحكم العلاقات بين أفراد هذا المجتمع، ولعلّ هذا ما كان وراء ظهور ما بات يطلق عليه الأمن القانوني، على اعتبار الأمن بمفهومه الضيق هو مجموع القواعد والإجراءات الخاصة التي تأمّن الفرد داخل الدولة من الأخطار التي تتهدد ماله ونفسه ومصالحه، من خلال ما يتم تشريعه من قوانين تمنع ارتكاب كل أنواع الجرائم، وأيضا على اعتبار أن القانون أيضا هو الضامن أيضا للالتزام جميع مكونات المجتمع باقتسام ثروات الدولة وتحسن توزيعها واستثمارها في ما يعود بالنفع على جميع مكونات المجتمع، وآنذاك نكون قد دخلنا في مفهوم العدالة الاجتماعية.
وعليه، فالقضاء دعامة كبرى لتحقيق العدل وحمايته، وإرساء قواعد الأمن والاستقرار، وإشاعة الطمأنينة في المجتمع وحفظ كيانه، فمن خلاله تتجلى مظاهر الثقة في مؤسسات الدولة ومنها المؤسسة القضائية، ولا تتكرس تلك الثقة إلا بتوفر مقومات تضمن حق المحاكمة العادلة، وتبرز بوضوح معالم استقلالية القضاء، والركون إلى العدل والإنصاف، وعدم المماطلة في الفصل في النزاعات. فإذا اطمأن الناس للقضاء انطلقت كوامن ملكات البذل والإبداع والإسهام في خدمة البلد والدفاع عن مقوماته، والسعي لتنميته وازدهاره. وهو الأمر الذي يكاد يغيب في منظومتنا القضائية بالمغرب للأسف، فالاختلالات التي شابت العدالة المغربية أفقدت ثقة المواطن في الجهاز القضائي، فااستفحال الفساد والرشوة في هذا القطاع، أفقده مصداقيته وحدّ بشكل كبير من دوره المحوري في تحقيق السلم الاجتماعي.
فبالرغم من المبادرات المتعددة التي تبنتها الدولة لإصلاح جهاز القضاء على أعلى المستويات، يبقى الفساد صاحب الكلمة الأولى في أحكام هذا الجهاز، إذ سبق لملك البلاد أن أعلن في خطاب ألقاه بمناسبة عيد الشباب (غشت 2008) عن تعيين “الهيئة الوطنية للوقاية من الرشوة “. ويعتبر من نافلة القول الإشارة إلى أن هذا الحدث ذاته يدل على ما وصلت إليه ظاهرة الرشوة من استفحال، إضافة إلى تخصيص الهيئة بدور وقائي فقط، بدل أن يتم تخويلها دور الحدّ والقطع مع هذه الظاهرة بشكل نهائي.
وهكذا طفت على السطح في العشرية الأخيرة قضايا مثل قضية الخطوط الملكية المغربية والقرض العقاري والسياحي والقرض الفلاحي والصندوق الوطني للتقاعد وملف ما بت يعرف بفضيحة الخازن العام للمملكة ومزوار صلاح الدين “هاك وهارا” وكارثة الاستحواذ على عقارات المواطنين من طرف مافيات كبرى متعددة الأطياف من رجال قضاء وسلطة وسياسة… هذه المؤسسات التي نهبت عن آخرها، دون أن تتحرك أيّة سلطة لاسترجاع المال العام الذي نهب، بل إنّ منهم من تمت ترقيته وتعيينه في مراكز حسّاسة كبرى كما هو الشأن مع صلاح الدين مزوار الذي تم تعيينه مؤخرا كوالي لبنك المغرب. في الوقت الذي نرى فيه النيابات العامة في الدول الديموقراطية تتحرك من تلقاء نفسها عندما يتعلق بانتهاك جسيم للقانون كيفما كان نوع الجريمة ومكانة مرتكبيها.
ويمكن أن نذكر في هذا الجانب من باب الأمثلة لا الحصر، قضية كليرستريم : Affäre Clearstream وهي عملية تلاعب معقدة جدا تعود إلى 2003، حيت تم الاساءة إلى اصحاب حسابات وهمية لدى شركة الخدمات المالية في لوكسمبورغ “كليرستريم”، عبر الاظهار انهم تلقوا رشوة في عملية بيع أسلحة لتايوان في العام 1991. وكان قاض يحقق في وقائع الفساد هذه، قد تلقى اللوائح المرسلة من جهة مجهولة ثم فتح تحقيق في قضية وشاية. وبدأت احداث القصة بتزوير لوائح شركة مالية في لوكسمبورغ تدعى “كليرستريم”. والهدف من هذا التلاعب كان الاساءة لمودعين مختلقين عبر اظهارهم بانهم استفادوا من رشوة في عملية بيع أسلحة في تايوان سنة 1991.
وكان نيكولا ساركوزي انذاك وزيرا في الحكومة نفسها مع دومينيك دو فيلبان، الذي خاض معه صراعا شرسا لخلافة جاك شيراك في قصر الإليزيه.
وتلقى قاض يحقق في قضايا الفساد هذه اللوائح من دون أن تعرف الجهة المرسلة عن نفسها. ففتح تحقيق بقضية اتهام كاذب. ومن بين الشخصيات الكثيرة التي ورد اسمها في اللوائح، من صناعيين ورجال سياسة وغيرهم، برز اسم ساركوزي. وهكذا اتخذت احداث القصة منعطفا سياسيا. ووعد ساركوزي بانه سيعمل لكي يلقى من قام بهذا التلاعب “عقابا قاسيا”. واتجهت شكوك ساركوزي إلى دو فيلبان الذي كان وزيرا للداخلية ورئيسا للوزراء بانه قد يكون من استخدم هذه اللوائح لاضعافه في السباق إلى قصر الاليزيه. ووضع المحققون يدهم على دفاتر الجنرال فيليب روندو وهو موظف سابق في الاستخبارات دونت فيها تفاصيل الاجتماعات السرية مع دو فيلبان من اجل اللوائح.
وحكم على الرئيس السابق لمجموعة ايرباص الاوروبية جان لوي جرغوران وخبير الحسابات عماد لحود، المتهمين بوضع هذه القوائم البنكية المزورة، بالسجن ستة اشهر للاول و18 شهرا للثاني مع النفاذ. كما حكم بغرامة 40 الف يورو لكل منهما.
فمن خلال تفاصيل وأحداث هذه القضية التي أتارت الرأي العام الفرنسي آنذاك تبرز أهمية القضاء في حماية السلم الاجتماعي وضمان استقرار المجتمع ومعه الدولة، وهو عكس ما نراه في الدول الغير التي لم تؤسس بعد قواعد بناء ديموقراطية حقيقية كالمغرب، وما نتابعه اليوم في وسائل الإعلام الدولية من ثورات للشعوب مباشرة بعد نهاية كل عملية انتخابية هو دليل واضح على معقولية ما ذكرناه.
إنّ مشهد الفيديو الذي تداوله المواطنون المغاربة، وأيضا عدد كبير من المواقع الإلكترونية الدولية، والذي يظهر مجموعة من الشبان يهتكون عرض طفلة داخل حافلة للنقل العمومي بشكل مقزز ومثير للاستغراب، يجسد بوضوح حياد قطار العدالة المغربية عن سكته، فعندما لا يصبح الجهاز القضائي وسيلة كافية لردع المجرمين وضمان سيادة القانون، تصبح العدالة عرجاء تمشي برجل واحدة، أو تقف مكانها دون حراك، ويمكن أيضا أن نشير أيضا من باب التمثيل لا الحصر، إلى مقطع الفيديو الذي انتشر بين المواطنين لمن أسموه بابن الفشوش الذي كان يحمل قنينة خمر في يده، بعدما ارتكب حادثة سير بسيارته الفارهة وهو يتهكم على رجال الشرطة، وأيضا ما شاهدناه مؤخرا من استنكار كبير للمواطنين على الفضاء الأزرق لما وقع لرب أسرة من الجالية المغربية المقيمة في بلجيكا من اعتقال وصف بالتعسفي، بعد سوء تفاهم بسيط بينه وبين إبنة بن شماس رئيس مجلس المستشارين.
كل هذه الانزلاقات تجعل المواطن المغربي يفقد ثقته في الجهاز القضائي، وفي منظومته الأمنية بشكل عام، وتجعله يحاول القصاص لنفسه بنفسه، ويعود بذلك إلى مرحلة ما قبل القانون، نظرا لكون عامل الثقة في المؤسسات القضائية هو عصب الحياة لجميع تشريعات وقوانين الدولة.
وحيت أنّ السلطة القضائية هي المصدر الأساسي للأمن القضائي، الذي يناط بالقضاة، و لأن الأمن القضائي يتحقق عند شيوع الثقة في القضاء بعنصريه ( مؤسسة و قضاة)، التي تعكسها استقلالية السلطة القضائية ( الاستقلال العضوي) واستقلال القضاة ( الاستقلال الشخصي)، ويتمظهر ذلك من خلال جودة الأحكام وسرعة الفصل في النزاعات، وتنفيذ الأحكام القضائية ضد الإدارة. لأن الغاية من الأمن القضائي هو ضمان سيادة القانون للإسهام في التنمية الاقتصادية و السلم الاجتماعي، اعتبارا لكون المستفيد من الأمن القضائي هو المجتمع أي الدولة بمفهومها الواسع، تأسيسا على ذلك كله نجد أنّ الدولة المغربية مطالبة أكثر من أيّ وقت مضى ببدء مرحلة إصلاحات شاملة وجذرية وجادّة بدرجة أولى لهذا القطاع، فلا استثمارات ستفد على اقتصاد البلد، ولا سياحة ستنمو نموّا حقيقيا يعود بالنفع على الدولة والمواطن، ولا استقرار سيطبع الحياة العامة في مدن المملكة، إذا لم يتم تصحيح مسار الجهاز القضائي.
نفس ما قلناه عن الجهاز القضائي، ينطبق على على باقي السلطات الأمنية، على اعتبار أنّ جميع الأجهزة الأمنية هي خاضعة للسلطة القضائية، وتعمل تحت إشرافها، إذا لم نقل أنّ الأجهزة الأمنية هي أجهزة تنفيذية للجهاز القضائي.
ولكي نعرج عن علاقة الأجهزة الأمنية بالسلم الاجتماعي سنكون مطالبين بأن نعرج أولا على بعض المفاهيم المرتبطة به، على اعتبار أنّ مفهوم الأمن هو مفهوم قديم رافق سيرورة تطور الحياة البشرية منذ القدم، وقد ورد مصطلح الأمن في فرنسا في أواخر عهد الملك لويس الرابع عشر الذي حكم من 1738-1815 واستهدف في ابسط معانيه منع الجار من أن يكون قويا جدا لا لإتقاء شره فحسب وإنما صيانة للنفس وصيانة للجيران الآخرين.
نقرأ في تعريف والتر ليبمان Wilter Lippmann إن الدولة تكون عندما لا تضطر للتضحية بمصالحها المشروعة لكي تتجنب الحرب، وتكون قادرة على حماية تلك المصالح، وإن أمن الدولة يجب أن يكون مساويا للقوة العسكرية و الأمن العسكري إضافة إلى إمكانية الهجوم المسلح المشروعة (من وجهة نظر الدولة بالطبع)، ونجد أنّ تعريفه اعتمد على الجانب العسكري وما يتعلق بالقوة.
أما تعريف أرنولد ولفيرز Wolfers فيقول بأن الأمن الوطني يعني حماية القيم، التي سبق اكتسابها، وهو يزيد وينقص حسب قدرة الدولة على ردع هجوم، أو التغلب عليه. في حين يرى لورنس كروز Lorenz Cruzأن الأمن هو غياب التهديد بالحرمان الشديد من الرفاهية الاقتصادية.
وفي العصر الحديث تطور مفهوم الأمن الوطني من مفهوم ضيق يرتكز على حماية الدولة من التهديدات الداخلية والخارجية وضمان استمرار نظامها الحاكم، إلى مفهوم أوسع يشمل أمن المواطن واستقراره وراحته، وكذا ضمان السلم الاجتماعي وسيادة النظام.
وفي المغرب عرفت السلطة الأمنية تطورات متلاحقة منذ الاستقلال إلى يومنا هذا، ويمكن تقسيم تاريخ السلطة الأمنية بالمغرب إلى مرحلتين رئيسيتين، مرحلة ما قبل تولي الملك محمد السادس للسلطة، ومرحلة ما بعد توليه لها، ففي عهد الراحل الحسن الثاني ووزير داخليته آنذاك إدريس البصري، كانت الأجهزة الأمنية تعتمد سياسة القبضة الحديدية في ضمان الأمن في المجتمع المغربي، غير أنّ تلك السلط كان يعاب عليها أنّها كانت تحشر انفها كما يقال في كل صغيرة وكبيرة من حياة المواطن، وتتدخل في أدقّ تفاصيل حياته، والأخطر من ذلك أنّ القائمون على راس المصالح الأمنية (الأمن والدرك والجيش والقوات المساعدة) كانت لهم الكلمة العليا حتى في التعيينات بالمراكز الحساسة بالدولة، إضافة إلى ما صاحب الحراك السياسي والانتفاضات الحزبية والشعبية آنذاك، وأبرزها ما بات يعرف بسنوات الرصاص، والانتفاضة الشعبية ضد الجوع في الثمانينات بعدد من المدن المغربية والأحياء كالدار البيضاء، والتي أظهرت فيها السلطات الأمنية صورة سيئة للغاية، من خلال الاعتقالات التعسفية، والاستعمال المفرط للقوة والرصاص الحي، والاختطافات والإخفاء القسري، والتعذيب بجميع أشكاله، وهي الممارسات التي ظلت تشكّل فترة سوداء من تاريخ المغرب. لم يتم تجاوزها بشكل مبدئي إلاّ بعد إبرام صلح اجتماعي ما بين ضحايا تلك الانتهاكات الجسيمة وما بين الدولة.
وبدأت أولى بوادر الإصلاحات مع تولي الملك محمد السادس الحكم بإقدامه لأول مرة على تعيين شخص مدني على رأس جهاز “لادجيد” الذي كان حكرا على العسكريين فقط. كما قطعت تلك الأجهزة مع مرحلة التحكم في الحياة السياسية والمشهد السياسي بالمغرب، لتتفرغ لدورها الرئيسي في ضمان أمن المواطن واستقراره. غير أنّ هذه المهمة لم تكن بالأمر الهيّن بالنسبة لها، فتطور الجريمة وضعف الإمكانيات المادية والبشرية واللوجيستية وقف دائما عائقا أمام طموحاتها وبرامجها.
انطلاقا مما سبق نشير إلى أنّ تحقيق الأمن يشكل حلقة رئيسية من حلقات الدولة الحديثة والديمقراطية، نظرا لما يلعبه توفير الأمن من صمّام أمان للسلم الاجتماعي، غير أن توفير الأمن المنشود من المجتمعات والشعوب، لا يتوقف فقط على زيادة العناصر الأمنية واعتماد المقاربة الأمنية، بل أثبتت الأبحاث والدراسات الاجتماعية أنّ السلم الاجتماعي يتوقف على تحقيق وتوفير الدولة لمجموعة من الشروط والمتطلبات، كالعمل والصحة والتغذية وحقوق الإنسان ونوع من الحرية الفردية، وكلها حقوق إنسانية كونية. وكلما اختلّ ميزان حق من هذه الحقوق، اختلّ معه ميزان السلم الاجتماعي ولو توفّر لدى الدولة المعنية القدر الكافي من العناصر الأمنية. كما أنّ المقاربة الأمنية في حد ذاتها تتطلب تزويد المصالح الأمنية بالعنصر البشري الكافي والمؤهّل، وبالأدوات والتجهيزات التي تتطلبها أنشطة تلك المصالح، وهو الأمر الذي يغيب في حالة منظومتنا الأمنية المغربية. فالمصالح الأمنية بالمغرب بجميع تلويناتها “الأمن الوطني، الدرك الملكي، القوات المساعدة، إدارة السجون، وغيرها” تفتقد لأبسط شروط وظروف العمل، بدءا بالنقص الكبير على مستوى العنصر البشري، وضعف برامج تكوين هذا العنصر، وضعف أو انعدام تحفيزه من خلال تحقيق مستوى عيش كريم لعناصر هذه الأجهزة، وهو الأمر الذي ينعكس على مردودها، ويدفعها إلى القيام بممارسات غير أخلاقية، كتعاطي الرشوة والابتزاز، وإلى التقاعس عن القيام بالمهام بالنسبة لمن لم تسمح له مبادئه بتعاطي تلك الممارسات.
فعلى مستوى الإدارة العامة للأمن الوطني، يشكّل النقص العددي المهول في العنصر البشري، أبرز نقائص هذا القطاع، وأوّل عامل من عوامل فشله وفشل برامجه ومقارباته، إذ يعاب على الجهاز تشغيل العنصر الواحد في أيام الذروة والاحتقان أزيد من 16 ساعة في اليوم، ناهيك عن التنقيلات بين المدن والأقاليم، وما يخلفه من تذمر وسخط لدى عناصر الجهاز الأمني.
أما قطاع السجون الذي يلعب دورا رئيسيا في إعادة تأهيل الجانحين ودمجهم في المجتمع، وبالتالي المساهمة بالقسط الأبرز في تحقيق السلم الاجتماعي المنشود، فنقائصه تفوق كل القطاعات الأخرى، والأمر لا يرجع لضعف أو عدم أهلية الساهرين عليه، وإنما إلى التهميش الذي يعانيه القطاع من الحكومات المتعاقبة، نظرا لكون الفاعلين السباسيين بالمغرب لم يستوعبوا بعد، ما تلعبه المؤسسات السجنية من دور حيوي في تحقيق السلم الاجتماعي، ويبرز هذا التهميش بشكل واضح في عدد المناصب المالية التي تخصصها الدولة للقطاع، إذ رغم الارتفاع الصاروخي اللافت للنظر في عدد السجناء، والبناء المتزايد للمؤسسات السجنية، فإن العنصر البشري ظلّ عدده محدودا للغاية، ولن نبالغ إذا قلنا أنه لا يكفي حتى لتحقيق المقاربة الأمنية بتلك المؤسسات، فكيف يكفي إذا لتطبيق البرامج التربوية والإصلاحية لنزلاء تلك المؤسسات، هذا رغم الجهود الحثيثة التي يبدلها الساهرون على القطاع، ورغم دقهم لناقوس الخطر بشكل متكرر وفي جميع المناسبات، ناهيك عن الأجور الهزيلة التي يتلقاها موظفوا القطاع وحرمانهم من بعض الامتيازات التي يستفيد منها موظفو القطاعات الأمنية الأخرى كالتعويض عن السكن، إذ لولا المبادرات التي تقوم بها إدارة القطاع المركزية وهيئاتها الاجتماعية، لتقدم أغلب عناصرها بطلبات تسريح من العمل.
نفس ما قيل عن جهاز الأمن الوطني، يمكن أن يقال عن جهاز الدرك الملكي، نقص في العنصر البشري، أسطول نقل محدود وقديم جدا لا يسمح بتغطية كافة المناطق القروية بالشكل المطلوب، غياب برنامج متكامل لتطوير الجهاز بشكل يتناسب مع تطور الجريمة، والنتائج بداية توسع الأنشطة الإجرامية في القرى بشكل ملحوظ.
إن موضوع الأمن أصبح يشكل مطلبا ملحّا لذى عموم الشعب المغربي بجميع شرائحه، وقد اهتم العديد من الفقهاء بالأمن من أمثال “Roubier” الذي رأى أن الأمن هو أول قيمة اجتماعية متطلّبة، و”Ribert” الذي اعتبر أن كل انسان متحضّر يضم قلبه الرغبة في الأمن، و”Carbonnier” الذي يرى أن الأمن هو الحاجة القانونية الأساسية. كما أنّ معظم هيئات المجتمع المغربي قد دقت ناقوس الخطر، وما انتشار تلك الظواهر الجرمية التي تطفو على السطح بين الفينة والأخرى إلاّ دليل واضح على خطورة ما يتهدد السلم الاجتماعي بالمغرب، كما أنّ الإصرار على عدم الاستجابة للمطالب الاجتماعية العادلة في اقتسام الثروات، وتوزيع خيرات البلاد توزيعا عادلا بين جميع فئات المجتمع، يزيد المشاكل استفحالا وخطورة، فالحراك الشعبي الذي أصبح يلوح بين الفينة والأخرى في معظم مناطق ومدن المملكة، هو بداية شرارة احتقان لا يعرف ما حجم الحريق الذي قد تشعله لا قدّر الله، إذا لم يؤخذ الأمر بالجدية المطلوبة.
إعداد:ذ/عزيز مطيع