عقد الهبة


مقدمة :

 لقد حببت الشريعة الإسلامية كل الأعمال التي من شأنها أن تقرب بين قلوب الناس وتغرس المحبة والإخاء فيما بينهم، ففرضت الزكاة وجعلتها ركنا من أركان الإسلام، وسنت الهبة تذييلا للصعاب التي تواجه بعض الأفراد الذين يكونون عاجزين عن سلوك سبيل الحياة وتحصيل الضروري من القوت، فكان لزاما إنقاذهم مما يعانون من فقر وهشاشة.

وتجد الهبة سندها ومشروعيتها في الكتاب مصداقا لقوله تعالى “وآتى المال على حبه ذوي القربي واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين في الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة[1] ، كما تجد سندها في السنة، إذ وردت مجموعة من الأحاديث في تبيان فضل الهبة، وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :” كان رسول الله “ص” يقبل الهدية ويثيب عليها” رواه أحمد والبخاري أبو داود والترمذي.[2]

والالتزام بالمعروف والإحسان للأخرين يعتبر تبرعا، لأن الملتزم لا يأخذ مقابلا لما أعطاه، ولا يعطي المتعاقد الآخر معه مقابلا لما أخذه. فالتبرعات هي كل ما يعطيه الإنسان مجانا بدون مقابل، كالهبة والصدقة والحبس والعمرى والعارية…، وتعتبر التبرعات من أهم المواضيع التي كانت مؤطرة بقواعد الفقه الإسلامي، فقد ابدعت المصنفات الفقهية وشروحها المعتمدة وكتب النوازل المختلفة قديما وحديثا بالبحث والتدقيق فيها.

ونظرا لأهمية الهبة في تقوية الروابط الإنسانية المبنية على أساس البر، وتكريم الإنسان لأخيه الإنسان، اهتمت بها جل الشرائع السماوية والقوانين الوضعية التي أباحتها ونظمت أحكامها بقواعد لتسير وفق ضوابط تجعلها تحقق أهدافها التي تبرم من أجلها[3]. ويمكن تصنيف التشريعات العربية، بالاستناد إلى الإطار القانوني للتبرعات بوجه عام وللهبة بوجه خاص، إلى عدة طوائف:

الطائفة الأولى : نظمت الهبة ضمن القانون المدني في القسم الخاص بالعقود الناقلة للحق أو العقود التي تقع على الملكية أو عقود التمليك.

الطائفة الثانية : نظمتها ضمن قانون الأسرة.

الطائفة الثالثة : أفردت لها نصا خاص كالقانون اليمني . فقد خص القانون المدني اليمني، ضمن العقود التي تقع على الملكية، بابا خاصا بعقود التبرع أحال فيه بخصوص أحكام الهبة والنذر  والصدقة و العمرى والرقبة إلى قانون الهبة.

الطائفة الرابعة : وتضم القانون المغربي الذي يتميز عن باقي الطوائف كلها بعدم تنظيمه للتبرعات. ومن ثم ظل موضوع مصادرها محل خلاف في الفقه والقضاء.[4]

كان المشرع المغربي يتبنى أحكام المذهب المالكي في الهبة باعتبارها المصدر المباشر لتنظيمها قبل صدور مدونة الحقوق العينية الجديدة، وانصب اهتمامه عليها باعتبارها من عقود التبرعات، فأفرد لها الباب الثاني من القسم الأول المعنون بأسباب كسب الملكية، من المادة 273 إل المادة 289 من القانون 39.08 المتعلق بمدونة الحقوق العينية.[5]

وعرفها المشرع المغربي في المادة 273 من القانون 39.08 بأنها ” الهبة تمليك عقار أو حق عيني عقاري لوجه الموهوب له في حياة الواهب بدون عوض”.

ولقد استبعد المشرع في تعريفه للهبة المنقول، حيث يرى بعض الفقه أنه كان على المشرع اعتماد عبارة مال أو حق مالي بدل حصر التعريف في العقار والحق العيني العقاري [6]، على اعتبار أن الهبة يمكن أن تنصب على المنقول أيضا، ذلك أن المال له مفهوم واسع يشمل الأشياء التي لها قيمة اقتصادية، سواء منقولة أو غير منقولة، كما يشمل الحقوق التي يمكن أن تترتب على هذه الأشياء[7].

وتتجلى أهمية الهبة في الحياة العملية و القانونية، باعتبارها تصرف خطير، إذ هو تصرف يتطلب جرأة من الواهب للتنازل عن جزء من ماله[8]، فيترتب عنها افتقار ذمة الواهب، وذلك بإخراج مال معين من ذمته إلى ذمة المتبرع له، فإّذا كان التبرع حال الحياة سمي هبة، أما إذا كان التنفيذ بعد  الوفاة سمي التبرع وصية [9].

من خلال ما سبق يمكن أن نطرح الاشكال التالي ما هي أركان وشروط صحة عقد الهبة بين أحكام الفقه الإسلامي ومدونة الحقوق العينية ؟وإلى أي حد استطاع المشرع الحفاظ على قواعد الفقه في تأطيره لأحكام عقد الهبة ؟

للإجابة عن هذه الإشكاليات ارتأينا أن نقسم هذا الموضوع إلى محورين نتناول في الأول أركان وشروط صحة عقد الهبة وفي الثاني أحكام عقد الهبة.

أولا : أركان وشروط صحة عقد الهبة :

نطم المشرع المغربي مقتضيات عقد الهبة في مدونة الحقوق العينية. وسنتطرق في النقطة الأولى إلى أركان عقد الهبة أو شروط انعقاد عقد الهبة وفي النقطة الثانية إلى شروط صحة عقد الهبة.

أ‌-   شروط انعقادعقد الهبة :

يقوم عقد الهبة كسائر العقود على الأركان اللازم توافرها في العقد بصفة عامة وهي الصيغة والأطراف والمحل و السبب، وقد اكتفى المشرع بالتنصيص على ركني الإيجاب والقبول في المادة 274  منم.ح.ع.

1-            الصيغة :هي قوام التراضي في عقد الهبة مثل سائر العقود الأخرى، وهي التعبير الصريح عن اقتران الايجاب بالقبول.أي كل قول أو فعل وما يدل على التمليك بلفظ الهدية و الهبة والعطية والنحلة وشبه ذلك ، و لا فرق بين أن تكون دلالة اللفظ صريحة أم لا.فإيجاب الواهب بالتبرع وايجاب الموهوب له للعطية. وبالصيغة ينعقد عقد الهبة.

  • الايجاب في الهبة :فالإيجاب هو أول كلام يصدر من أحد المتعاقدين، وهو اما بالتعبيرالصريح أو الظاهر باللفظعلى الهبة مثل أن يقول الواهب : وهبت هذا الشيء لك، وأهب لفلان هذا الكتاب . او ما يجري مجرى الصريح، كقوله: ملكته لك، أو جعلته لك، أو هو لك. أو أعطيته، أو نحلته، أو أهديته إليك، أو خذ هذه الدار، ونوى به الهبة، لأن تمليك العين للحال أو جعلها له من غير عوض هو معنى الهبة، ولأن بقية الألفاظ تفيد التمليك في الحال في عرف الناس أو في استعمالهم.[10] وكذلك بالمعاطاة أو بالإشارة المفهومة عند العجز عن الكلام أو السمع أو البصر. فالمعاطاة تعبير بالفعل، يدل على الهبة من يد إلى أخرى. والاشارة تعبير إشاري للأصم و الأبكم والأعمى، بهز الرأس عموديا دلالة على الموافقة وأفقيا دلالة على الرفض. يقول الشيخ خليل : ” بصيغة، أو مفهومها، وإن بفعل : كتحلية ولده”[11].

التعبير الباطن : لقد أجاز المشرع استثناء قبول التعبير الباطن في الدلالة على إرادة الملتزم، وذلك في فرضيتين لا غير :  في حالة السكوت الدال على الرضا. وحالة تأويل بنود العقد عند الاقتضاء. ولا توسع. جاء في الفصل 467 من ق.ل.ع :” التنازل عن الحق يجب أن يكون له مفهوم ضيق، ولا يكون له إلا المدى الذي يظهر بوضوح من الألفاظ المستعملة ممن أجراه، ولا يسوغ التوسع فيه عن  طريق التأويل. والعقود التي يثور الشك حول مدلولها لا تصلح أساسا لاستنتاج التنازل منها “،ومنه فالسكوت قد يعبر عن الإرادة، كالشخص الذي يكون حاضرا في مجلس العقد فيجري التصرف في أمواله بالهبة ولا يعترض، أو كان غائبا عن المجلس فبلغ إليه التصرف بالهبة في ماله ولم يعترض وهذا ما جاء في الفصل 38 من ق.ل.ع :” يسوغ استنتاج الرضى أو الإقرار من السكوت إذا كان الشخص الذي يحصل التصرف في حقوقه حاضرا أو اعلم بحصوله على وجه سليم ولم يعترض عليه من غير أن يكون هناك سبب مشروع يبرر سكوته” .

– الايجاب الملزم في الهبة: إذا كان الالتزام يصدر من الواهب في الهبة ، فلا التزام على الموهوب له. فالواهب يلتزم بمجرد وصول الايجاب إلى علم الموهوب له. فالإيجاب الملزم في سائر التبرعات هو الذي يصل إلى علم الملتزم له فقد نص الفصل 18 من ق.ل.ع على ” الالتزامات الصادرة من طرف واحد تلزم من صدرت منه بمجرد وصولها إلى علم الملتزم له” والمصدر فيها هو الإرادة المنفردة لا غير، بحيث لا يتوقف على إرادة الملتزم له إلا عند القبول وإبرام العقد وتنفيذه.

ويخضع الايجاب الملزم للأحكام العامة لقانون الالتزامات والعقود في باب نظرية العقد، ومن بين هذهالأحكام أنه لا حرج على الواهب في الرجوع في إيجابه، إذا لم يعلن الموهوب له عن قبوله. حسب  الفصل 26 من ق.ل.ع[12]. غير انه في حالة الإيجاب المقترن بأجل للقبول فإن الواهب يبقى ملتزما به المدة الازمة، ولا يمكن أن يتحلل منه إلا بانتهاء الأجل دون قبول وهذا ما نص عليه الفصل 29  من ق.ل.ع” .[13] أما إذا كان  الايجاب المقترن بأجل يبقى ساريا حتى بعد وفاة الموجب أو نقص أهليته في المدة الباقية، فإنه لا ينطبق على لهبة. ذلك أنه لا هبة إلا في حياة الواهب وفي حال صحته وتمام عقله وكمال أهليته وعدم إحاطة الدين بماله. مما يجعل الفصل 31  من ق ل.ع   غير قابل للتطبيق على عقد الهبة.[14]

  • القبول في الهبة :وهو أن يرد الموهوب له على إيجاب الواهب بقوله :قبلت او رضيت، أو يعبر عن موافقته بالفعل، أو إشارة ذات دلالة كافية. حيث نص الفصل 28 من ق.ل.ع” يعتبر الرد مطابقا للإيجاب إذا اكتفى المجيب بقوله قبلت أو نفذ العقد بدون تحفظ” ولا بد من قبول الموهوب له الهبة حتى تتم، إذ الهبة عقد ولا يتم العقد إلا بتوافق الايجاب والقبول، ويتحقق التراضي الذي يعتبر الركن الأول في أي عقد. وتنعقد الهبة بالإيجاب والقبول فقط، إلا أنها لا تصح إلا بالحوز في حياة الواهب وصحته وكمال أهليته وملاءة ذمته، فلو تأخر الحوز إلى أن توفي الواهب أو فقد أهليته أو انتقصت وأفلس أو أعسر، لبطلت الهبة.

لا يشترط في القبول ان يكون بألفاظ مخصوصة، بل كل لفظ صدر من الموهوب له، يدل على رضاه بعد الايجاب من الواهب، يعتبر قبولا، واللفظ ليس بشرط، فقد يكون القبول باللفظ أو الفعل وهو القبض، كما يصح ان يكون القبول صريحا او ضمنيا، كما يعتبر السكوت قبولا من الموهوب له بعد علمه بالإيجاب إذا تمخضت الهبة لمنفعته، في حين إذا كانت الهبة بعوض أو فرض الواهب فيها التزاما على الموهوب له، فإن السكوت في هذه الحالة لا يعد قبولا إذا لم يرفض الموهوب له الهبة في وقت مناسب.[15]

ولقد اختلف العلماء في مسألة القبض هل هو شرط صحة أم شرط انعقاد؟ فاتفق الثوري والشافعي وأبو حنيفة أنه من شرط صحة الهبة القبض وأنه إذا لم يقبض الموهوب له، لم يلزم الواهب[16]، أما المالكية فينعقد عقد الهبة بالقبول ويجبر على القبض لأنه من شروط التمام لا من شروط الصحة.[17]

2-        شكلية عقد الهبة :إن الشكلية المتطلبة في العقود تندرج بين الورقة العرفية والرسمية في القانون المغربي، غير أن الهبة لا بد وأن ترد في ورقة رسمية، فإذا تخلف هذا الشرط كان العقد باطلا.

  • شكلية عقد الهبة قبل صدور مدونة الحقوق العينية:إنإثبات الهبة كان يخضع قبل صدور المدونة للقواعد العامة للإثبات، حيث نص الفصل 443 من ق.ل.ع على ما يلي: ” الاتفاقات وغيرها من الأفعال القانونية التي يكون من شأنها أن تنشئ أو تنقل أو تنهي الالتزامات أو الحقوق والتي تتجاوز قيمتها عشرة آلاف درهم لا يجوز إثباتها بشهادة الشهود ويلزم ان يحرر بها حجة أمام الموثقين أو حجة عرفية”.

من خلال هذا الفصل يمكن اجمال ما يلي أنه كلما كانت قيمة الحق المترتب عن إنشاء أو تعديل أو انقضاء التزام تفوق عشرة آلاف درهم لزم لإثباته وثيقة رسمية أو عرفية، وبما أن الهبة من الحقوق المترتبة عن نقل ملكية الشيء أو الحق من شخص لأخر دون عوض، فإن الاثبات فيها مقيد بشرط الكتابة كلما تعدت قيمتها عشرة آلاف درهم، وهذا هو الأصل في الاثبات عامة، غير أن هذه القاعدة ترد عليها استثناءات وهو ما نصت عليه الفصول 447 و444 و448 [18]، وينصرف الاستثناء في الفصل 447 ق.ل.ع إلى بداية الحجة بالكتابة، فمتى انعدم الدليل الكتابي التام، ووجد بين يدي الموهوب له مجرد بداية دليل، فإنه يقوم مقام الدليل الكتابي التام، ووجد بين يدي الموهوب له مجرد بداية دليل، فإنه يقوم مقام الدليل كلما تعزز بالشهادة والقرائن كما تقضي بذلك القواعد العامة، أما الفصل 448 [19]من ق.ل.ع فقد أورد المشرع فيه وقائع استثنائية على سبيل الحصر يصح فيها الاثبات بشهادة الشهود.

ولقد اعتبر الاشهاد في الفقه المالكي شرطا في صحة التبرعات من حيث هي، ومنها الهبة وفي كل ما كان من غير عوض.[20]

مما سبق يمكن أن نستنتج أن المشرع قد استبعد الوثيقة العرفية في الهبة، ولو أن الاجتهاد القضائي كان قد أقرها في بعض الحالات، حيث ورد في قرار صادر عن المجلس الأعلى (سابقا)، بتاريخ 21 يناير 2009 تحت عدد 33 في الملف عدد 210/2/1/2008 ما يلي: ” لئن كان الإشهاد بشرط في صحةعقود التبرع، فإنه جرى العمل القضائي على جواز الاعتماد على كل ما يقوم مقام الإشهاد ويؤدي نفس الغرض المناط به .

وعليه فإن توقيع المتبرع على عقد الصدقة، وقيامه بإجراءات المصادقة على توقيعه أمام السلطات الإدارية المختصة ينهض كإشهاد يصح به التبرع.[21]

ويتم الإشهاد بواسطة عدلان يتلقيان الإشهاد بالهبة ويحررانه في محرر رسمي. ومنه فإن التضارب القضائي في الأخذ بالورقة العرفية أحيانا وفي بطلان الهبة الموثقة في عقد عرفي أحيانا أخرى، يخلق نوعا من التناقض بين حالة وأخرى.

أما فيما يخص الحوز فقد كان من أهم القضايا التي حظيت بنقاش فقهي طويل وعمل قضائي مضطرب، حيث كان بعض الفقه يتشدد في حيازة العقار الموهوب شريطة توافر عدة شروط منها إخلاء العقار من شواغل الواهب، ومعاينة الإخلاء من طرف عدلين خاصة أن المالكية يعتبرون الحوز شرط انعقاد وليس شرط صحة.

  • الشكلية في الهبة وفق مدونة الحقوق العينية :

أضاف المشرع إلى ركني الايجاب والقبول، ركنا أخر بمقتضى الفقرة الثانية من المادة 274 من م.ح.ع”  التي تنص على ” يجب تحت طائلة البطلان أن يبرم عقد الهبة في محرر رسمي”.

لقد توخى المشرع من رسمية عقد الهبة إلى تلافي النزاعات التي قد تثيرها عقود الهبة العرفية، التي غالبا ما يكتنفها اللبس والغموض وتفتقر إلى تعداد عناصر العقد الأساسي، مما يزكي الصراعات والمشاحنات امام القضاء.

ورتب المشرع جزاء على عدم احترام هذه الشكلية باعتبارها شرط انعقاد عقد الهبة، البطلان، وتكن المحكمة ملزمة بإثارته تلقائيا ولو لم يقم به الأطراف.

وبالرغم من أن المشرع قد رتب البطلان عن عدم احترام شكلية الرسمية في عقد الهبة، نجده بالمقابل ومن خلال الاطلاع على فحوى المادة 4 من م.ح.ع أ التي تنص  على ” يجب أن تحرر –تحت طائلة البطلان- جميع التصرفات المتعلقة بنقل الملكية أو بإنشاء الحقوق العينية الأخرى أو نقلها أو تعديلها أو إسقاطها وكذا ا الوكالات الخاصة بها ، بموجب محرر رسمي ، أو بمحرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف محام مقبول للترافع أمام محكمة النقض ما لم ينص قانون خاص على خلاف ذلك…” أنه لم يحصر فيها تحرير التصرفات الناقلة للملكية في المحررات الرسمية، وإنما أجاز انجاز هذه التصرفات في محرر ثابت التاريخ من طرف محام مقبول لدى محكمة النقض.

 المفروض في النصوص القانونية أن يكمل بعضها بعضا، وألا تتعارض فيما بينها، فهل يجب أن يحمل اشتراط الرسمية في عقد الهبة على أنه نوع من التخصيص؟

بالتمحيص في المادتين 4  و274  من م .ح.ع يوحى بأن ثمة تناقض بينهما، هذا التناقض سيحيل على إشكالية أخرى تتعلق بالهبة التي تنصب على عقار خاضع للملكية المشتركة بمقتضى القانون 18.00  المتعلق بالملكية المشتركة للشقق والطبقات ، حيث تنص المادة 12  منه على: ” يجب أن تحرر جميع التصرفات المتعلقة بنقل الملكية المشتركة أو إنشاء حقوق عينية عليها، او نقلها، أو تعديلها، أو إسقاطها بموجب محرر رسمي أو محرر ثابت التاريخ يتم تحريره من طرف مهني ينتمي إلى مهنة قانونية ومنظمة يخولها قانونها تحرير العقود وذلك تحت طائلة البطلان”[22]

ومنه فهناكاتجاه يقضي بأن  القانون الأولى بالتطبيق هو القانون 18.00 المتعلق بنظام الملكية المشتركة للشقق والطبقات ، وذلك إعمالا لمقتضيات المادة الأولى من مدونة ح.ع،[23] التي اعتبرت أن مقتضيات مدونة ح.ع. تسري شرط ألا تتعارض مع تشريعات أخرى خاصة بالعقار والتي من ضمنها قانون المليكة المشتركة .[24]

3-   المحل في عقد الهبة :المحل هو الشيء أو الحق الذي يلتزم الواهب بتسليمه للموهوب له بدون عوض، ويخضع المحل في الهبة لأحكام النظرية العامة من الفصول 57 إلى 61 من ق.ل.ع إضافة إلى شروط خاصة بعقد الهبة.

ويشترط في الشيء الموهوب أن يكون موجودا وقت الهبة أي وجودا حقيقيا أي الوجود الفعلي أو الحكمي ، فالفعلي يثبت بالمعاينة والاطلاع والحكمي بالوثائق والسندات. وأن لا يكون مستحيلا لقد نص الفصل 59 من ق.ل.ع على “يبطل الالتزام الذي يكون محله شيئا أو عملا مستحيلا إما بحسب طبيعته أو بحكم القانون “.

كما يشترط في المحل أن يكون معينا أو قابلا للتعيين، لقد نص الفصل 58 من ق.ل.ع على ما يلي : ” الشيء الذي هو محل الالتزام يجب أن يكون معينا على الأقل بالنسبة إلى نوعه، ويسوغ أن يكون مقدار الشيء غير محدد إذا كان قابلا للتحديد فيما بعد” يتبين من خلال الفصل السابق أن محل الالتزام بوجه عام يجب أن يكون معينا على الأقل بالنسبة إلى ذاته أو نوعه كأن يكون عقارا أو منقولا. ويجوز أن يكون قابلا للتعيين في مقداره فقط. فالجهل بالمقدار عند العقد ليس بمؤثر إذا ثبت أنه قابل للتحديد مستقبلا. ويقول المامون الكزبري : ” إذا لم تذكر المواصفات ولم تتوفر العناصر التي تجعل محل الالتزام قابلا للتحديد، بطل الالتزام لافتقاره إلى محل معين وبالتالي امتنع انعقاد العقد”[25]، هذا هو الحكم العام في النظرية العامة للعقد. لكن هناك تخصيص يعرفه عقد الهبة، والخاص يقدم على العام[26]. ففي عقد الهبة يجوز ان يكون محل الهبة مجهولا في عينه أو مقداره. والسر في ذلك يرجع إلى انه من عقود التبرع ليس إلا. كما يقو ابن رشد ” ولا خلاف في المذهب في جواز هبة المجهول والمعدوم المتوقع الوجود، وبالجملة كل ما لا يصح بيعه في الشرع من جهة الغرر”.

ويلزم ان يكون المحل صالحا للتعامل فيه، غير مخالف للنظام العام والآداب العامة، لقد نص الفصل 57 من ق.ل.ع على ما يلي : ” الأشياء والأفعال والحقوق المعنوية الداخلية في دائرة التعامل تصلح وحدها لأن تكون محلا للالتزام، ويدخل في دائرة التعامل جميع الأشياء التي يحرم القانون صراحة التعامل بشأنها”يتضح من خلال هذا النص أن المحل في الالتزامات التعاقدية يجب كذلك أن بكون مشروعا. والمشروعية معناها عدم مخالفة النظام العام والآداب العامة. فالأشياء والحقوق محل التعامل هي تلك الأشياء والحقوق التي لا يحظر القانون التعامل بها. ومن ثم ليس للشخص أن يهب او يتصدق على الغير بأموال محظورة شرعا كالمخدرات والخمور والنجاسات والبضائع المغشوشة أو المزيفة أو المهربة أو المسروقة.

ونص الفصل 62  منق.ل.ع على ما يلي : ” يجوز أن يكون محل الالتزام شيئا مستقبلا او غير محقق فيما عدا الاستثناءات المقررة بمقتضى القانون- ومع ذلك لا يجوز التنازل عن تركة إنسان على قيد الحياة ولا إجراء أي تعامل فيها أو في شيء مما تشتمل عليه ولو حصل برضاه. وكل تصرف مما سبق يقع باطلا بطلانا مطلقا”. من خلال هذا النص يتبين أن محل الالتزام يصح ان يكون شيئا أو حقا مستقبلا، كالعقارات التي تشيد في تاريخ لاحق، والمحاصيل التي تجنى في موسم فلاحي مقبل والتجهيزات التي ستصنع في فترة محددة. فمحل الالتزام لا يكون محققا عند إبرام العقد وإنما محقق الوقوع مستقبلا. غير أنه في عقود الهبةوالصدقة نجد خلافا بسبب اختلاف نظر الفقه إلى خاصية الحيازة فيهما. فاتجاه اعتبرها شرط صحة كالشافعي وابي حنيفة، وبالتالي لا تصح ولا تعقد الهبة دون حيازة، وعليه يصعب تصور فرضية تحقق الوجود مستقبلا في الشيء أو الحق المراد هبته. واتجاه ثان ينظر إلى أن الحوز هو شرط تمام ليس إلا، لا يمنع انعقاد العقد في الأول على أن تتم في اللاحق، كالإمام مالك، فالهبة عنده تصح وتعقد دون حيازة على شرط أن تقع لاحقا، وعلى الموهوب له أن يجد في طلب هبته، فإذا تراخى إلى أن توفي الواهب أو جن أو سفه أو سقط في مرض موت أو أحاط الدين بماله، فإن الهبة تبطل.[27]وبمقابل القواعد العامة نجد المشرع قد تدخل في مدونة الحقوق العينية وجعل جزاء هبة المال المستقبل تقع باطلة وذلك حسب المادة 277 من مدونة الحقوق العينية.

4-   السبب في الهبة :السبب ركن من اركان التعاقد. ذلك أن الالتزام الذي لا سبب له أو المبني على سبب غير مشروع يعد كأن لم يكن. والسبب في الالتزام يفترض فيه أنه سبب حقيقي ومشروع إلى أن يثبت العكس.

وينظر في عقود التبرع إلى السبب بجد وحزم وحذر، حتى لا يكون محلا للهوى والضلال والإغراء، ومطية للأغراض الدنيئة والأفكار الهدامة، فما ضاع مجتمع في حقبة من حقب التاريخ، إلا وكان للطمع في ضياعه نصيب، إن لم يكن النصيب الأوفى.[28]

السبب في الهبة بين النظرية التقليدية والنظرية الحديثة، يتراوح بين الواهب الذي يهب ماله بنية التبرع الخالص، أو المحبة أو التشجيع او الإعانة أو حماية الحق والمشروعية.  فإذا تبرع أو تصدق ابتغى وجه الله والدار الأخرة، لكن قد يخيم على قلبه الشر، فيتخذ من تبرعاته هدفا للشيطان. ومنه فالسبب هو الباعث على التعاقد الذي نهضت به النظرية الحديثة لتنادي به، وتشترط فيه المشروعية حماية للمجتمع. أما السبب في النظرية التقليدية في عقود الهبة فهو نية التبرع وكفى، أي السبب الموضوعي. والحال أن نية التبرع قوام صحة التراضي في عقد الهبة، فهي ركن فيه والهبة لا تصح إلا به. ثم إن النظرية التقليدية بهذا التحديد لفكرة السبب، نراها تصادر الفكرة من أساسها، وتفتح الباب لذوي النيات السيئة، للعبث والفساد، لأن السبب عندها يقف عند نية التبرع لا غير، دون أن تبحث في الهدف والباعث على هذا التبرع، وفي الهدف إما مصلحة أو مفسدة، ودرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة. [29]

ونظرية السبب في قانون الالتزامات والعقود نصت عليها الفصول من 62 إلى 65 من ق.ل.ع حيث نص الفصل 62 على ما يلي “الالتزام الذي له سبب أو المبني على سبب غير مشروع يعد كأن لم يكن، يكون السبب غير مشروع إذا كان مخالفا للأخلاق الحميدة او النظام العام أو القانون”.

والفصل 63 :”يفترض في كل التزام أن له سببا حقيقيا ومشروعا ولو لم يذكر”

والفصل 64 :”يفترض أن السبب المذكور هو السبب الحقيقي حتى يثبت العكس”

والفصل 65 :” إذا ثبت أن السبب المذكور غير حقيقي أو غير مشروع كان على من يدعي أن للالتزام سببا آخر مشروعا أن يقيم الدليل عليه”.

يرى الأستاذ عبد الرحمان بلعكيد أنه من باب أولى أن تحمل نظرية السبب في ق.ل.ع على السبب الباعث بدل أن تحمل على السبب الموضوعي، ويرجع ذلك إلى أن السبب الباعث لا يذكر غالبا في العقد، فالأصل أن يبقى خفيا، واستند في طرحه هذا على ما نص عليه المشرع في الفصل 63 السابق الذكر، الذي يفترض أن لكل التزام سبب حقيقيا ومشروعا ولو لم يذكر وأن السبب المذكور هو السبب الحقيقي، حتى يثبت العكس.

أما السبب في الفقه الإسلامي، فالعبرة بالباعث، إنما الأعمال بالنيات، قال الرسول “ص” إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى”[30]   منه فرع الفقهاء القاعدة الفقهية المعروفة” الأمور بمقاصدها”.

  • شروط السبب في الهبة :لقد تطلب المشرع ثلاث شروط في السبب وهي :

–  أن يكون موجودا : ومعناه أن تكون الهبة مبنية على سبب شرعي، يبرر انتقال المال من ذمة شخص إلى أخرى، فالأموال لا تكتسب إلا بحق ولا تنتزع من أيدي أصحابها إلا بحق، وهو في الهبة وباقي العطايا الأخرى، نية التبرع الخالصة من الشبهة.

–  أن يكون حقيقيا : أي أن لا يكون وهميا ، لأن العبرة بالسبب الحقيقي وليس الظاهر المبني على الكذب والخداع. وقد أجاز المشرع الدفع بالصورية لإثبات السبب الحقيقي ونفي السبب الوهمي.

–  أن يكون مشروعا:من الشروط الأساسية في السبب لأن مشروعيته تجب حقيقته ووجوده، واعتبار الفعل غير مشوع كلما خالف النظام العام والآداب العامة.

ب‌-    شروط صحة عقد الهبة:

للهبة كما هو الشأن في سائر العقود، أركان وشروط لا بد من توفرها، وإلا كان العقد غير صحيح، وأركان الهبة عند الجمهور ومنهم المالكية، أربعة، وهي: الواهب والموهوب له، والشيء الموهوب والصيغة.

وعند الحنابلة : ركن الهبة  هو الإيجاب والقبول، لأنه لا بد منه لثبوت الملك، أما عند القانونيين فللهبة ثلاثة أركان : التراضي والمحل والسبب[31]

وستقوم دراستنا على شروط صحة عقد الهبة كما جاء بها المالكية أي النقطة الأولى (الواهب والشروط المتطلبة فيه) والنقطة الثانية (الموهوب له والشروط المتطلبة فيه )

1-  الشروط المتطلبة في الواهب :

الأطراف في عقد الهبة واهب وموهوب له وبهما يقوم هذا العقد، وقد يكونا اشخاص ذاتية أو اعتبارية، على أن تتوفر فيهما شروط الصحة من أهلية وسلامة الإرادة من عيوب الرضا، ويبطل عقد الهبة كلما فسدت الأهلية أو تعيبت الإرادة.

  • الواهب شخص ذاتي :يشترط في الواهب إذا كان شخصا طبيعيا أن يكونعاقلا ، مالكا أمر نفسه أي أهلا للتبرع، أي ليس سفيها ولا في حالة إفلاس أو مستغرق بدين أو في مرض الموت. وأن يكون راشدا.
  • أن يكون عاقلا :يعتبر العقل قوام التصرفات، به يصح التصرف وبدونه ينعدم، فلا تصرف لمن فقد او اختل عقله، كحالة الجنون أو العته، أو في مرض الموت حيث يشترط في المريض ثبوت العقل ثبوتا لا شك فيه.

–  فالمجنون يكون فاقدا لعقله إما باستمرار فيسمى ” جنونا مطبقا” أو بانقطاع” فيسمى ” الجنون المتقطع” وقد جاء في المادة 217 من مدونة الأسرة مايلي ” يعتبر عديم أهلية الأداء :

المجنون و فاقد العقل .

يعتبر الشخص المصاب بحالة فقدان العقل بكيفية متقطعة، كامل الأهلية خلال الفترات التي يؤوب إليه عقله فيها”وتصرفات المجنون غير نافذة إذا صدرت في حالة الجنون المطبق ويخضع إلى مسطرة التحجير بطلب ممن يعنيه الأمر او من وكيل الملك حسب مقتضيات المادة221[32]ق.م.أ.

أما المعتوه: العته في اللغة هو الدهشة والرعونة، يقال عته الرجل عتها وعتها وعتاها بمعنى دهش، والمعتوه المدهوش من غير مس جنون. والمعتوه كذلك المخفوق والناقص العقل. وفي الاصطلاح العته هو ضعف العقل المؤدي إلى خلط في الكلام والتدبير والغبن. فالمعتوه لا يفقد عقله بالمرة كالمجنون وإنما يصاب فيه بضعف لا يقوى معه على التعامل وتمييز الأشياء، والعته حسب مدونة الأسرة المادة 216 ” المعتوه هو الشخص المصاب بإعاقة ذهنية لا يستطيع معها التحكم في تفكيره وتصرفاته”. فليس له أن يتصرف في أمواله بالبيع والهبة والرهن وإنما يحجر عليه طبقا لمقتضيات المواد 220 و221 من ق.م. أ.

والسفيه: جاء في المادة 215 من م.أ ” السفيه هو الذي يصرف ماله فيما لا فائدة فيه، وفيما يعده العقلاء عبثا، بشكل يضر به أو بأسرته”.

تعتبر تصرفات السفيه غير نافذة إذا صدرت في حالة السفه ويتم الحجر عليه بناء على طلب من المعني بالأمر أو من النيابة العامة، أو ممن له مصلحة في ذلك حسب المادة 221 من م.أ.

فالسفيه في الظاهر شخص تام العقل، ليس بالمجنون ولا المعتوه، إلا أن عقله لا ينفعه بل يضره ويدفع به إلى التهلكة، وصرف المال فيما لا نفع فيه، لا للنفس ولا للمجتمع.

إذا صدر الحكم بالتسفيه، فإنه يسري بأثر رجعي من تاريخ ظهور السفه وثبوته على الشخص، ويترتب على ذلك أن جميع التصرفات العوضية وبدون عوض، التي قد يعقدها السفيه منذ ذلك التاريخ غير نافذة وقابلة للإبطال.

أما القاصر : فلا تصح الهبة من الصبي ولو كان مميزا  أي انه ناقص الأهلية ، فتعتبر الهبة من  الأفعال الضارة به ضررا محضا وقد جاء في مدونة الأسرة في المادة 225 ما يلي ” تخضع تصرفات الصغير المميز للأحكام التالية :

  • تكون نافذة إذا كانت نافعة له نفعا محضا،
  • تكون باطلة إذا كانت مضرة به،
  • يتوقف نفادها إذا كانت دائرة بين النفع والضرر على إجازة نائبه الشرعي حسب المصلحة الرجحة للمحجور، وفي الحدود المخولة لاختصاصات كل نائب شرعي”.

وبالتالي لا تجوز الهبة من الصغير ولو أجازها الولي لأنه محجور عليه في كل المال، أما فيما يخص قبول الهبة فإن القاصر له أن يقبلها ولو لم يجزها وليه وهذا ما نص عليه الفصل 5 من ق.ل.ع الذي ينص على ” يجوز للقاصر ولناقص الأهلية أن يجلبا لنفسهما نفعا ولو بغير مساعدة الأب أو الوصي أو المقدم، بمعنى أنه يجوز لهما أن يقبلا الهبة أو أي تبرع آخر من شأنه أن يثريهماأو يبرئهما من التزام دون أن يحملهما أي تكليف”

1-    أن يكون الواهب مالكا للشيء الموهوب :نصت المادة 275 من م .ح.ع على ما يلي : “ يشترط لصحة الهبة أن يكون الواهب كامل الأهلية مالكا للعقار الموهوب وقت الهبة”.

الواهب هو المالك، إذا كان صحيحا، مالكا أمر نفسه، وهو من يكون أهلا للتبرع، واتفق الفقهاء على أنه يجوز هبته إذا كان كامل الأهلية، ومالكا للعقار الموهوب وقت الهبة، صحيح الملك وكان في حال الصحة وحال إطلاق اليد.

وإلى هذا يشير الشيخ خليل بقوله: (ممن له تبرع بها ) أي الهبة، والمراد أن من له التبرع في ماله، فله أن يهب وتصح هبته بالشروط الآتية :

-أن يكون الواهب مالكا للعقار الموهوب به، وقت الهبة فلا تصح هبة ما لا يصح ملكه، كما لا تصح هبة ملك الغ

ير، فإذا وهب شخص ملك الغير، لم تنعقد الهبة[33]، وذلك حسب مقتضيات المادة 277.

3- عدم إحاطة الدين بمال الواهب :بمعنى أن الواهب في حالة إعسار أي أن الدين يحيط بماله ، ويستغرق ذمته المالية فيكون في حالة إعسار، فالشرط فيه عند الهبة ألا يكون معسرا إعسارا بينا أو وشيك الوقوع، حتى لا يضر بدائنيه. فأمواله ضمان عام لدائنيه. وحسب الفصل 1241 من ق.ل.ع :” أموال المدين ضمان عام لدائنيه، ويوزع ثمنها عليهم بنسبة دين كل واحد منهم ما لم توجد بينهم أسباب قانونية للأولوية “..ويلحق المنع جميع عقود التبرع التي أبرمها سواء كانت بشكل مباشر أو عن طريق بيع صوري، ويمكن لدائنيه طلب بطلان تصرفه لما فيه من إنقاص لضمانهم العام .وقد أقرت بعض التشريعات مثل القانون المدني الفرنسي في المادة 1167 والقانون المدني المصري في المادتين 237 و238  على جواز دعوى عدم نفاذ التصرف الذي يبرمه المدين إضرارا بدائنيه تحت ما يصطلح عليه بالدعوى البوليانية أو البوليصية أو بالدعوى المباشرة، بمقابل هذا نجد أن المشرع المغربي لم ينص على هذه الدعوى صراحة ولكنه وضع بين يدي الدائن سلسلة من الإجراءات تكفل حماية حقوقه من الضياع ، منها دعوى الصورية، التي يقوم المدين فيها بتهريب أمواله عن طريق بيع وهمي ، فللدائن أن يطلب بطلان هذا البيع وإعادة الأموال المهربة إلى الضمان العام، كما له أن يثبت الصورية بمختلف وسائل الإثبات.[34]

وفي المذهب المالكي ليس لمن أحاط الدين بذمته أن يتصرف في أمواله إضرارا بدائنيه، وإذا فعل كان تصرفه باطلا.ويقول الشيخ خليل ” وبطلت إن تأخر لدين محيط” فالهبة وما في حكمها، تبطل بعد إحاطة الدين بالواهب. كما تبطل ولو انعقدت قبله، إذا لم تحز إلا بعده.  فالشرط في العطية هو الحوز قبل وقوع المانع من موت أو فلس أو جنون او سفه  ويقول الخرشي في شرح قول الشيخ خليل :” ثم إن الهبة تبطل إذا تأخر حوزها عن الواهب في صحته حتى لحقه دين محيط بماله سواء كان قبل الهبة أو بعدها لفقد الشرط وهو الحوز”[35]

وجاء المشرع من خلال ما نصت عليه المادة 278 من م.ح.ع ” لا تصح الهبة ممن كان الدين محيطا بماله”. ليأكد على عدم جواز الهبة ممن كانت ذمته مستغرقة بدين، وعليه فالهبة تجوز، أي تصح وتلزم إلا إن وجد مانع يمنعها، كالدين الذي أحاط بمال الواهب، فإن الهبة إذا وقعت، والواهب في حالة مدين، واستغرق الدين ماله حتى أصبح ماله محاطا بدين الغرماء تبطل الهبة لحق الغرماء في مال الواهب، ويأخذ الهبة الغرماء من جملة ماله. وتصح الهبة فيما بقي من مال بعد تخلص الغرماء من ديونهم وتلزم وتنفذ من المال الباقي.

4-ألا تكون الهبة في مرض الموت :من شروط الواهب ألا يكون في مرض موت . فمرض الموت آفة يحجر فيها على المريض، فلا يتصرف في أمواله بدون عوض إلا في حدود الثلث كالوصية. وإذا صح من مرضه، صحت جميع عطاياه.أما تصرفاته العوضية فجائزة ما لم تخف تبرعا، والسر في هذا المنع يرجع إلى أن المريض يكون في طريقه إلى الزوال، فليس له أن يعبث بحقوق الورثة التي شرعها الله لهم. ومن ثم وجب الضرب على يديه والتحجير عليه في هذه الفترة الحرجة. ومرض الموت هو المرض المخوف الذي يحكم الطب بكثرة الموت به، قال الشيخ خليل ” وعلى مريض حكم الطب بكثرة الموت به..” ومنه فليس كل مرض يصيب الشخص إلا ويمنعه من التصرف في أمواله، وإنما العبرة بالمرض المخوف الذي تنتج عنه الوفاة عادة. ومنه نستخلص أن مرض الموت يتقيد بقيدين هما : أولهما أن يكون مرضا مخوفا وثانيهما ان يكون متصلا بالموت مباشرة . والمرض المخوف هو قرينة تدل على كثرة الموت به يرجع تقديرها إلى الأطباء المختصين وللقاضي عند الاقتضاء أن يناقش تقاريرهم. ومقتضى هذه القرينة ان يكون المريض طريح الفراش لا يبارحه. يقول المواق:” قال مالك كل مرض أقعد صاحبه عن الدخول والخروج.. فإنه يحجر فيه عن ماله”[36].

أما المشرع المغربي فقد نص في المادة 280 من م.ح.ع على ما يلي : ” تسري على الهبة في مرض الموت أحكام الوصية.

إلا أنه إذا لم يكن للواهب وارث صحت الهبة في الشيء الموهوب بكامله”.

لا تصح الهبة من مريض مرض الموت . وعليه فإذا وهب الواهب وهو مريض، فتبقى موقوفة إلى أن يصح أو يموت، فإن صح من مرضه، صحت هبته، بلا خلاف بين الفقهاء. وإن مات من مرضه، أي مرض الموت هذا جرت هبته مجرى الوصية، أو تسري عليها أحكام الوصية، تجوز الهبة بالثلث فأقل لغير وارث، ولا تجوز لوارث مطلقا إلا بإجازة الورثة، وهم رشداء بعد أن يصير الأمر إليهم، ولا تجوز بأكثر من الثلث مطلقا إلا بإجازة الرشداء كذلك.

إلا أنه إذا مات الواهب أو لم يكن من وارث، صحت الهبة في الشيء الموهوب بكامله، أي أن هبة المريض مرض الموت تخرج من رأس ماله بكامله، أي أن هبة المريض مرض الموت، تخرج من رأس ماله بكامله، إذا مات وليس له وارث يرثه.[37]

بناء على ما تقدم من الشروط، فإنه لا تصح الهبة إلا من العاقل، البالغ، الرشيد، الصحيح البدن، الحر المختار، فلا تصح من صبي ولو كان مميزا، ولا من مجنون، ولا من سفيه، ولا من مريض مرض الموت ولا من سكران، ولا من مرتد ولا من مكره، ولا ممن أحاط الدين بماله إلا بإجازة الدائنين، إذا كان الدين سابقا عن العطية ، واما إذا كانت العطية سابقة على الدين، فلا أثر للدين.[38]

5-   الشروط المتطلبة في الموهوب له :الموهوب له قد يكون شخصا طبيعيا أو اعتباريا، والأصل في الموهوب له أن يكون موجودا لا منتظر الوجود، فلا هبة إلا بين الأحياء، ولا يشترط فيه أن يكون مسلما فالهبة تصح حتى لغير المسلم، كما تصح للأولاد بالتسوية وبدونها.

والموهوب له هو كل شخص يصح أن يتملك الهبة والشيء الموهوب، ولا يشترط فيه ما يشترط في الواهب من أهلية للتبرع وهي اقوى من أهلية للتصرف، لأن الواهب يقوم بعمل ضار به ضررا محضا. وبالمقابل نجد الفقه والقانون يخفف من أهلية الموهوب له، فلا يشترط فيه حتى أهلية التصرف، لأنه يقوم بعمل نافع له نفعا محضا.[39]

لقد أجاز المالكية أن يكون الموهوب له راشدا أي له أهلية قبول الهبة دون إذن أحد، حتى ولو كانت مقترنة بشروط والتزامات، كما أجازوها للمجنون أو السفيه أو المعتوه أو الصبي المميز أو غير المميز، فيمكن أن يقبل الهبة عن كل واحد منهم وليه أو وصيه أو المقدم عنه، وإذا كانت الهبة لا تتم إلا بالقبض، قبضها عنه، وكل ذلك بدون حاجة إلى إذن المحكمة.

وأما الجنين، فيجوز أن يهب شخص ماله لحمل وجنين في بطن أمه،  وتكون هبته موقوفة كميراثه ووصيته، فإذا استهل صارخا أو عاطسا أو بما يدل على ولادته حيا، حاز أهلية الوجوب، وأصبحت له ذمة ووعاء تحفظ فيه حقوقه وأمواله وتؤدى منها التزاماته.[40] فإن مات بعد ولادته حيا، كان لورثته، وإن ولد ميتا، بقي المال على ملك الواهب. أما الحنفية فيشترطون في الموهوب له ان يكون موجودا حقيقة وليس حكما، فالجنين في بطن امه لا يكون موجودا، والهبة إيجاب وقبول، والجنين لا يقدر على القبول وليس له أن يقبل عنه إذن فالهبة لا تجوز.

كما تجوز الهبة لما هو معدوم، فيقول : إن ظهر لفلان ولد، فهذا المال له، وفي هذه الحالة لا تكون الهبة لازمة، فيجوز للواهب التصرف فيها قبل وجود الموهوب له، في المقابل نجد الحنفية لم يجيزوا الهبة على المعدوم المرجو في المستقبل . كما تجوز الهبة لغير معين عند المالكية عن طريق الإباحة أو التحليل، أي إذن الإنسان لغير معين بأن ينتفع بماله أو يستهلكه أو يملكه.  ولكن الحنفية لم يجيزوا الهبة على المجهول لانعدام تأتي القبول.[41]

أما المشرع المغربي فنص في المادة 276 من مدونة الحقوق العينية على ” إذا كان الموهوب له فاقد الأهلية، فيقبل عنه نائبه الشرعي، فإن لم يكن للموهوب له نائب شرعي عين له القاضي من ينوب عنه في القبول، أما إذا كان الموهوب له ناقص الأهلية فقبوله الهبة يقع صحيحا، ولو مع وجود النائب الشرعي”.أما القانون المصري وبعض التقنينات العربية، فقد اشترط إذا كان الموهوب له صبيا غير مميز أو مجنونا أو معتوها لا يكون اهلا لقبول الهبة بنفسه، ولكن يقبلها عنه وليه أو وصيه، أو القيم عليه، وذلك دون حاجة إلى إذن المحكمة. إلا إذا كانت مقترنة بشرط او محملة بالتزامات معينة على الموهوب له ام يجر للولي قبولها إلا بإذن المحكمة.  وكذلك لا يجوز للوصي او القيم قبولها او رفضها إلا بإذن المحكمة.[42]

ثانيا : أحكام عقد الهبة :

يلتزم الواهب بنقل ملكية الشيء الموهوبوالمحافظة عليه حتى تسليمه إلى الموهوب له بعد عقد الهبة. فإذا كان الموهوب عقارا وتمت الهبة بوثيقة رسمية، أو إشهاد أو ما يثبت انتقال ملكية العقار، فإنه يتعين على الواهب نقل الملكية وتسليم العقار إلى الموهوب له. واما في المنقول المعين بالذات المملوك للواهب، فتنتقل الملكية إلى الموهوب له بمجرد تمام الهبة وقبل القبض إذا كانت الهبة قد وثقت في وثيقة،[43] أما إذا كانت الهبة قد تمت بالمناولة اليدوية فتنتقل الملكية في الوقت ذاته بالقبض.

 وعليه فالتزامات الواهب الأصلية متدرجة بين ضمان التعرض والاستحقاق أو ضمان العيوب الخفية والحوز أو الحيازة أو القبض باعتبارها التزام جوهري في الهبة، يلتزم بمقتضاه الواهب بأن يسلم الشيء الموهوب أو الحق إلى الموهوب له ويجعله يحوزه حيازة فعلية هادئة علنية، لا تحتمل النزاع. أما الموهوب له فإنه يلتزم بإرجاع الهبة في الاعتصار. وهذا ما سنتناوله بشيء من التفصيل.

1- الضمان :الضمانإما ضمان  تعرض واستحقاق أو ضمان العيوب الخفية، ويعني ضمان الاستحقاق، ضمان الملكية الشرعية لمحل الالتزام وتمكين المستفيد من التمتع به دون منازع. وأما ضمان العيوب فإنه ينصرف إلى ضمان محل الالتزام من أي عيب يلحق به، ظاهرا كان أم خفيا.[44]

وعليه سنحاول ان نتناول الضمان في نقطتين :

  • نطاق تطبيق ضمان التعرض والاستحقاق في الهبة :

*التعرض : يضمن الواهب التعرض الصادر منه ، سواء كان ماديا أو قانونيا حتى لا يعتدي على حقوق الموهوب له ، كما يضمن التعرض الصادر من الغير، خاصة إذا ادعى الغير حقا على الموهوب سابق على الهبة، أو تاليا لها وكان مستمدا من الواهب.

فإذا نجح هذا الغير المتعرض في دعوى الاستحقاق، فإن الموهوب له يرجع على الواهب بضمان الاستحقاق وفي حالتين هما :

–      إذا تعمد الواهب إخفاء سبب الاستحقاق: ففي هذه الحالة فإنه يضمن الاستحقاق لأنه سيء النية، ويسأل مدنيا وحتى زجريا لأنه ليس لأحد الحق بأن يسخر من الناس أو يدفع بهم إلى الخسارة والمشقة أو أن يمكر وينصب عليهم، فمن يهب هبة وهو على علم بأنها مملوكة للغير او مسروقة أو مثقلة بدين أو رهن أو حجز أو عبء ضريبي أو نزع للملكية من اجل المنفعة العامة، يكون شخصا ماكرا ويحمل في باطنه الاستهزاء بالغير وخداعه.  والهبة في كل هذه الأوضاع ليست بهبة أصلا، لأنها تنعدم إما برجوع المال إلى أصحابه، او تملكه الدولة أو يقضى منه الدين أو الرهن أو الحجز، هذا إن كانت كافية، وإلا فالموهوب له قد يتحمل الفرق باعتباره خلفا لسلفه.

–      أما والحال أنه حسن النية وطرأ وان استحقت الهبة من الغير فإنه لا ضمان عليه، لأنه لا محل لإعمال مبدأ المعاملة بنقيض القصد، فالهبة بلا عوض، وما لا عوض فيه لا ضمان فيه أصلا إلا ما استثني.  فالعقد عقد تبرع، والإحسان لا يرد بالإساءة، واستحقاق الهبة من الغير كان سيقع لا محالة على الواهب قبل الهبة وبعدها، وبما أن الموهوب يخلف الواهب والعقد ينتقل إلى السلف من الخلف بحقوقه والتزاماته ومخاطره، حيث ينص الفصل 306 من ق.ل.ع ” على أن الالتزام الباطل بقوة القانون لتخلف ركن من أركانه الجوهرية لا ينتج عنه أي أثر إلا استرداد ما دفع بغير حق تنفيذا له” .وبالتالي ففي الهبة الباطلة بسبب استحقاق الغير لها، فإن الموهوب له لم يدفع أي عوض حتى يحق له أن يطالب بإرجاعه. إلا أنه يكون في حكم الحائز حسن النية .[45]

أما في الحالة التي استحقت فيها الهبة وكان الموهوب له يعلم سبب الاستحقاق فإنه يفرق ما بين العقار المنقول .

فإذا كان الموهوب عقارا: فإن الموهوب له يلتزم برده أو برد قيمته إذا هلك أو تعيب بفعله أو خطإه. كما يضمن الهلاك والعيب الناتجين قضاء وقدرا. فقد نص الفصل 102 من ق.ل.ع على أن ” الحائز للشيء عن سوء نية ضامن له، فإذا لم يستطع إحضار الشيء او لحق هذا الشيء عيب ولو بحادث فجائي أو قوة قاهرة، لزمه دقع قيمته مقدرة في يوم وصوله إليه، إذا كان الشيء من المثليات، لزمه رد مقدار يعادله- وإذا لحق الشيء عيب فقط، تحمل الحائز سيئ النية الفرق بين قيمته في حالته السليمة وقيمته وهو على الحالة التي يوجد عليها، وهو يتحمل بقيمته كاملة إذا لحقه عيب لدرجة يصبح معها غير صالح لاستعماله فيما أعد له”.

أما إذا كان الموهوب منقولا :فإنه يعمل بأحكام الفصل 101 و102  من ق.ل.ع ، حيث ينص الفصل 101 منه على ” الحائز سيء النية ملزم بأن يرد مع الشيء، كل الثمار الطبيعية و المدنية التي جناها أو التي كان يستطيع أن يجنيها لو أنه ادار الشيء إدارة معتادة وذلك من وقت وصول الشيء إليه. ولا حق له إلا في استرداد المصروفات الضرورية التي أنفقت لحفظ الشيء وجني الثمار، غير أنه لا يكون له الحق في أن يباشر هذا الاسترداد إلا على الشيء نفسه، ومصروفات رد الشيء تقع على عاتقه”

وقد عاقب المشرع الجنائي كذلك كل من تملك بسوء نية منقولا وصل إلى حيازته صدفة أو خطأ. فمن يقبل هبة أشياء مسروقة، ومن يبعث بهية أو هدية إلى شخص، فيتوصل بها آخر وهو يعلم أن لاحق له فيها، يكون قد ارتكب فعلا اجراميا.[46]

*إذا كانت الهبة بعوض، و كان الواهب يجهل سبب الاستحقاق، فإنه لا يكون مسؤولا إلا بقدر ما أداه الموهوب له من عوض.

*ثبوت الاستحقاق والادعاء فيه :  يتحقق  الاستحقاق بثبوت الحجة العادلة التي يسعى المدعي للإدلاء بها أو البحث عنها أو إحيائها أو إقامة حجة أخرى مقامها ، وبالتالي من يهب لآخر ملك غيره، أو ملكا مرهونا أو مثقلا بعبء ضريبي أو بنزع ملكية من أجل المنفعة العامة أو أي تكليف آخر، فإن حق الغير يكون ثابتا والاستحقاق مستوجبا، والموهوب له إما أن تنزع منه الحيازة بعد وضع اليد، أو يضطر إلى تحمل خسارة مالية لفك الهبة من الرهن أو العبء. والاستحقاق في هذا كله إما استحقاق كلي أو استحقاق جزئي. والجزئي إما يسير أو عسير، فاليسير لا تأثير له، والعسير وهو ما بلغ نسبة عالية من الاستحقاق، قد يؤثر تأثيرا على مصير الهبة، فتكاد تنعدم معه أو تنعدم الغاية منها، فهو في حكم الاستحقاق الكلي.

والاستحقاق لا يكون استحقاقا، إذا حاز الموهوب له الهبة، ثم طرأ سبب يدعو إلى نزع ملكيتها من اجل المنفعة العامة. فالسبب سبب لاحق وطارئ. أو من تنزع منه الهبة بالاعتداء والترامي دون سبب شرعي، أو بالإكراه والتهديد، أو بالمصادرة أو بالصورية عند الاتفاق على إظهار البيع لإخفاء الهبة لا تجوز. أو بالخطأ أو الغفلة من الموهوب له، إذا ضاعت منه الهبة بالنصب والاحتيال والتدليس.[47]

*دعوى الاستحقاق:إذاثبت الاستحقاق، وتراضى الأطراف على الاسترداد، ينتهي النزاع ما بين الأطراف، غير أنه في الحالة التي لا يتوصل فيها الأطراف إلى التراضي، يوجب على مدعي الاستحقاق أن يرفع دعواه أمام محكمة الموضوع. ويجوز للموهوب له إدخال الواهب في الدعوى كان ضامنا أم لا.

*  نطاق تطبيق ضمان العيوب الخفية في عقد الهبة :

نص المشرع المغربي في المادة 281 من م.ح.ععلى :” لا يلتزم الواهب بضمان استحقاق الملك الموهوب من يد الموهوب له، كما لا يلتزم بضمان العيوب الخفية، لا يكون الواهب مسؤولا إلا عن فعله العمد أو خطئه الجسيم “.

الحالة الأولى :المبدأ العام يقول أن لا ضمان على الواهب سواء كان ضمان استحقاق أو ضمان عيوب لأن الهبة تعقد وتبرم بهدف الاحسان والكرم . وعليه فالموهوب له إما أن يقبل الهبة بعيوبها الظاهرة أو الخفية أو أن يردها، فإذا قبلها تحمل بعيوبها سواء أشير لذلك بالعقد أم لا، فلا ضمان على الواهب في الحالتين، باستثناء هبة المنفعة في العارية، فالمعير يتحمل بالتعويض، في الحالة التي يكون فيها الشيء المستعار معيبا ويؤدي إلى إلحاق الضرر بمن يستعمله، ما لم يجهل المعير هذه العيوب، أو لم تكن بالغة الظهور، أو أن المعير سبق أن أخطر بها المستعير، أو ان السبب في الضرر يرجع إلى المستعير نفسه. جاء في الفصل 852 من ق.ل.ع ” تثبت للمستعير على المعير دعوى التعويض: ثانيا: إذا كان بالشيء المستعار عيوب أدت إلى إلحاق الضرر بمن يستعمله” وفي الفصل 853 ق.ل.ع :” ورد غير أن المعير لا يكون مسؤولا :

أولا – إذا كان يجهل سبب الاستحقاق أو العيوب الخفية في الشيء

ثانيا –إذا بلغت العيوب أو الأخطار من الظهور حدا بحيث انه كان من السهل على المستعير تبينها

ثالثا – إذا كان قد أخطر المستعير بوجود هذه العيوب او الأخطار أو الأسباب التي قد تؤدي إلى الاستحقاق

رابعا – إذا كان الضرر قد تسبب فقط عن فعل المستعير أو خطإه”.

الحالة الثانية :وهي أن الواهب يضمن العيوب التي تعمد إخفاءها وما اشترطه على نفسه لصالح الموهوب له .

 فالاستثناء يكون في هتين الصورتين فقط، واللتان لا تنبعان عن الهبة في الأصل وإنما عن الجرم وشبه الجرم، ففي الحالة التي يتعمد الواهب إلى إخفاء العيب يكون مسؤولا عن هذا الاخفاء مسؤولية تقصيرية ليس عن الإخفاء ولكنها ترجع إلى الغش والتدليس والمكر، وقد تصاحبها متابعة زجرية، خاصة إذا وهب الواهب آلة أو مواد وهو على علم بأن عند استعمالها ستسبب أضرارا للغير فإنه يتحمل تبعة الأضرار التي تلحق الموهوب له، فمحل المسؤولية هنا ليس هو إخفاء العيب ولكنه تعمد الإضرار، وفي هذا يقول السنهوري : “ففي حالتي تعمد إخفاء العيب وضمانه وخلو العين الموهوبة من العيوب، لا يلزم بتعويض الموهوب له إلا عن الضرر الذي يسببه العيب. فلا يعوض إذن الموهوب له عن العيب ذاته، أي عن نقص قيمة العين الموهوبة بسبب العيب، وإنما يعوضه عما سببه العيب من الأضرار”[48].

كما يضمن الواهب استثناء خلو الشيء الموهوب من العيوب إذا اشترطه على نفسه، فتقع عليه تبعة إصلاح العيوب التي قد تظهر على الشيء الموهوب، وكذا تعويض الضرر الذي يسببه العيب ما لم يتفق على خلافه، والشرط هنا بمثابة وعد بهبة جديدة، معلقة على شرط واقف. إذا ظهر العيب نشأ الالتزام. والوعد بالهبة ملزم لصاحبه إذا كان مقرونا بسبب.

2- الحوز في الهبة:

كل العطايا من هبة وصدقة وحبس تلزم بالقبول وتصح بالحوز، على شرط ان يقع في حياة المعطي وتمام عقله وعدم سفهه وإحاطة الدين بماله، وإلا بطلت، وإذا كانت في مرض موته، طبقت عليها أحكام الوصية. فقبض الهبة وحوزها تعني أن يكون الشيء الموهوب محوزا، أيتحت تصرف الموهوب له، فلا تثبت الهبة إلا بالحيازة ووضع اليد والتصرف في الشيء المحوز بشتى وجوه التصرف.

ويعتبر القبض عند المالكية شرط تمام لا شرط صحة، ولا يشترطونه في هبة الثواب، وبالمقابل يعتبر شرط صحة عند الحنفية والشافعية، أما ابن حنبل فلا يعتبره لا شرط صحة ولا شرط تمام.

  • تعريف الحوز :الحوز في اللغة هو الحيازة بمعنى القبض، يقال حاز الشيء يحوزه حوزا وحيازة، إذا قبضه إليه ووضع يده عليه، وأدخله في حرزه وملكه، وفي لسان العرب حاز الإبل يحوزها ويحيزها وحيزا وحوزها أي ساقها سوقا رويدا. أما في الاصطلاح فيقول ابن عرفة ” الحوز رفع تصرف المعطي في عطية بصرف التمكن منه للمعطي أو نائبه” وفي شرحه يقول الرصاع التونسي ” هو رفع يد المعطي عن التصرف في الملك ورد ذلك إلى المعطي أو نائبه” [49].

والحوز وضع شرعي تمييزا له عن الوضع غير المشروع الناجم عن الغصب والترامي والسرقة والنصب. وهو باليد كدلالة قاطعة على أنه وضع حسي. وأن المال خرج من يد إلى يد، ومن حرز إلى حرز، وهو إما بالأصالة حين يحوز المرء عن نفسه، أو بالنيابة حين يحوز عن منوبه، كالأب عن ولده القاصر، والوكيل عن الموكل. والحوز بهذا المعنى، هو التسليم الذي أبان عنه المشرع في ق.ل.ع، حيث جاء في الفصل 242 “لا تبرأ ذمة المدين إلا بتسليم ماورد في الالتزام قدرا وصنفا ولا يحق له أن يجبر الدائن على قبول شيء غير المستحق له كما أنه ليس له أن يؤدي الالتزام بطريقة تختلف عن الطريقة التي حددها، إما السند المنشئ للالتزام ، أو العرف عند سكوت هذا السند”.

من خلال ما سبق يمكن إجلاء الاختلاف ما بين الحيازة الاستحقاقية التي لا تدخل في معنى الحوز، الذي يعني التسليم، والحيازة هي سبب من أسباب كسب الملكية، إذا لم يوجد الرسم المثبت لها، وينحصر مداها فقط على العقار غير المحفظ إذ لا يتصور أن تقع حيازة عقار محفظ.أما الحيازة في المنقول فهي سند ملكيته إلى أن يثبت العكس والتي ترتكز على مدد وآجال خاصة لا تصح إلا بها. أما الاختلاف الثاني فهو الحوز كفعل مادي حسي، من يد إلى يد، أو انتقال الشيء أو الحق المعطى وظهوره بين يدي المعطى له وتحت سطوته، هو في ذاته واقعة مادية ليس إلا. والوقائع المادية يمكن اثباتها بشتى وسائل الاثبات كالشهادة والقرائن أو بلفيف على ما جرى به العمل، أو بما يدل على استعماله واستغلاله للعطية من قرائن كحرثها وزرعها والاتجار فيها وكرائها.

التبرعات بخلاف المعاوضات، هي إخراج المال بدون مقابل، وفي إخراج المال بلا مقابل، ضرر محتمل بالغير، فالحكمة من الحوز هي الحفاظ على حقوق الغير التي قد تنشأ له على هذا المال. لذا تنبه المشرع إلى ما يخلقه الحوز من مشاكل فقيد التبرعات بضرورة إخراجها من حوزة المتبرع إلى المتبرع له قبل حصول السبب المانع، والذي يمكن أن نجمله في أربعة أسباب: مانع الموت لأن عليه تنشأ حقوق للورثة، ومانع الدين المحيط بالمال لأته تنشأ عليه حقوق للدائنين، ثم مانع مرض الموت الذي يحجر فيه على المريض، لأنه في طريقه إلى الزوال، فليس له من ماله سوى الثلث كوصية والورثة متربصون. ثم مانع الجنون والسفه فلا حوز بعدهما. وفي بيان وجه الحكمة يقول محمد بن رشد :” وإنما كانت الحيازة من شرط تمام الهبة و الصدقة، لأنهما لو أجيزا دون حيازة، لكان ذلك ذريعة إلى ان ينتفع الإنسان بماله طول حياته ثم يخرجه عن ورثته بعد مماته، وذلك ممنوع.[50]

  • إثبات معاينة الحوز :تكون الهبة مهددة بالزوال إذا لم تحز قبل الموت أو الإفلاس أو مرض الموت أو الجنون والسفه، لهذا فالموهوب له يجب أن لا يهدأ له بال حتى يدخل الهبة في حوزه، فلا ينفعه القبول و لا تحرير العقد إن لم يحز، فالحوز حوز المعاينة أي حوز التحقيق بأن الموهوب له قد قبض الشيء الموهوب، ولا تتحقق المعاينة إلا بإشهاد الغير ، أما المعاينة المبنية على إقرار المعطي و المعطى له، فإنه لا يعتد بها ذلك أنه ليس للشخص أن يهيئ حجة بنفسه لتسري على الغير ، ويعتبر العدول والموثقون الأشخاص الذين خول لهم المشرع بالإشهاد ، وإشهادهم حجة قاطعة على الأطراق والغير، إلى أن يطعن فيها بالزور: وقد نص المشرع في ق.ل.ع في الفصل 419 على أن ” الورقة الرسمية حجة قاطعة، حتى على الغير في الوقائع والاتفاقات التي يشهد الموظف العمومي الذي حررها بحصولها في محضره وذلك إلى أن يطعن فيها بالزور..”وعليه يعتد بإشهادهم سواء في صلب وثيقة الهبة، أو في وثيقة مستقلة وذلك في الفرضية التي تنعقد فيها الهبة بالإيجاب والقبول ويؤخر فيها الحوز. والشرط أن يتعلق الإشهاد بمعاينة الحوز حقيقة وأنهم توجهوا إلى عين المكان للوقوف على التسليم من اليد إلى اليد.[51]
  • أنواع الحوز :

أ‌-                 الحوز في العقار: الهبة في العقار نفرق بين العقار المبني وغير المبني: ففي العقارات المبنية سواء كانت دورا أو شقق أو عمارات فالحوز فيها إذا كانت فارغة، يستوجب توجه العدلين أو الموثق إلى مكان وجودها، ويشهد بمعاينتها فارغة من شواغل الواهب وأمتعته. فتسلم إلى الموهوب له فارغة، ويتسلم مفاتيحها ورسوم ملكيتها وتصاميم بنائها والوثائق المتعلقة بها، وبسط يده عليها، يعتبر حوزا تاما. اما الحوز في العقار المبني، والذي يسكنه الواهب فإن الهبة لا تصح إلا بإفراغه نهائيا وبكامله، وعندها يجري الإشهاد بالحوز، إذ لا يمكن للواهب اشتراط السكن في الموهوب لأنه شرط مبطل للهبة لإسقاطه الحوز.

الحوز والتحفيظ :  الحوز فيه فعلي وقانوني وإذا اختل أحدهما فلا أثر للعطية، لأن انتقال الملكية في العقار المحفظ لا يقف عند ثبوت معاينة الحوز قبل المانع فقط، بل يلزم فيه حوز آخر، هو الحوز القانوني، أي التسجيل في الرسم العقاري إعمالا للفصلين  66 و 67 من ظهير التحفيظ العقاري المعدل والمتمم بالقانون 14.07 . فالفصل 67 منه لا يعتبر الحق في العقار المحفظ قد نشأـ ولو بين الأطراف أنفسهم إلا من تاريخ التسجيل، حيث نص على:” إن الأفعال الإرادية والاتفاقات التعاقدية، الرامية إلى تأسيس حق عيني أو نقله إلى الغير أو الاعتراف به أو تغييره أو إسقاطه لا تنتج أي أثر ولو بين الأطراف إلا من تاريخ التسجيل، دون الإضرار بحقوق الأطراف بعضهم على بعض وكذا بإمكانية إقامة دعاوى فيما بينهم بسبب تنفيذ اتفاقاتهم” ومنه إذا اختل الحوز الفعلي في الهبة استحال معه الحوز القانوني ما لم يطرأ خطأ أو غلط. وإذا ثبت الحوز الفعلي، ولم يعمل الموهوب له أو المتصدق عليه على التسجيل بالرسم العقاري فإن عطيته لا يكون لها أي أثر ولا يعتد بها حتى في العلاقة مع الواهب. والأكثر من ذلك أنها قد تضيع منه نهائيا إذا عمد الواهب او المتصدق إلى البيع أو الهبة من جديد، وأسرع المشتري أو الموهوب له الآخر إلى التسجيل. كما قد تضيع الهبة إذا كان على الواهب دينا، فأجرى الدائن على العقار حجزا تحفظيا ضمانا لدينه. كما قد تضيع بوفاة الواهب إذا لم يسرع الموهوب له إلى تسجيل الهبة قبل أن يسجل الورثة رسم إراثتهم، فالحوز في العقار المحفظ فعلي وقانوني لا يقوم أحدهما مقام الآخر.[52]

ويمكن القول بأن تبرير عدم كفاية الحيازة المادية في العقار المحفظ لصحة الهبة أو الصدقة، هي أنه لا حيازة على العقار المحفظ. بل لا بد من تسجيلها بالدفاتر العقارية قبل وفاة المتبرع.

فقد قضت محكمة الاستئناف بالدار البيضاء على هذا الأساس صراحة بقولها :” الحيازة المادية في مثل هذا العقار لا تكفي لصحة الصدقة بل لا بد من تسجيلها بالدفاتر العقارية قبل وفاة المتصدق. وكذلك فعل المجلس الأعلى:” بقوله لا حيازة على العقار المحفظ .”[53]

ومنه إذا كانت القاعدة العامة هي أن من شروط صحة التبرع حيازة العقار المتبرع به قبل حصول، المانع فإن الحيازة المطلوبة لصحة هذا التبرع في العقار المحفظ قبل حصول المانع هي الحيازة القانونية  التي يطبق عليها القانون الخاص الذي ينص على أن للتسجيل أثر منشئ للحق العيني[54].

وقد أثارت مسألة الاستغناء عن الحوز المادي بالتقييد في السجل العقاري جدلا بين جميع غرف المجلس الأعلى حيث أصدرت الغرف مجتمعة القرار عدد 555من أجل توحيد الاجتهاد القضائي، وإقرار فكرة الاستغناء عن الحيازة المادية الشرعية بالتقييد في السجلات العقارية بموجب القرار رقم 555 المؤرخ في 08/12/2003، فإن الخلاف استمر حتى بعد صدور هذا القرار، لأن كثيرا من القضاة سواء على مستوى المجلس الأعلى او على مستوى محاكم الموضوع لم يقتنعوا بهذه الفكرة. مما يدل على أنه لم يكن للقرار المبدئي المذكور أي تأثير أو دور من أجل توحيد الاجتهاد القضائي حول مسألة هل يغني التقييد في الرسم العقاري عن الحيازة الشرعية في التبرع بعقار محفظ.[55]

إلا أن المشرع بصدور مدونة الحقوق العينية قد حسم الأمر من خلال ما نص عليه في المادة 274 :” يغني التقييد بالسجلات العقارية  عن الحيازة الفعلية للملك الموهوب وعن إخلائه من طرف الواهب إذا كان محفظا أو في طور التحفيظ “، ويعني هذا أنه إذا أبرم عقد الهبة على عقار محفظ أو في طور التحفيظ ، يغني تقييد العقد بالسجلات العقارية لدى المحافظ على الأملاك العقارية، عن الحيازة الفعلية للملك الموهوب، ويغني كذلك عن إخلاء هذا الملك، بل يعتبر تقييده في السجلات العقارية بمثابة حيازة فعلية للعقار الموهوب من طرف الموهوب له، وكذا يعتبر أن الواهب تخلى بعد إبرام عقد الهبة، على الملك الموهوب والحيازة الفعلية والاخلاء شرطان أساسيان في الهبة، لكن تقييد عقد الهبة في السجلات العقارية، يغني عن الحيازة الفعلية والاخلاء،[56].

أما إذا أبرم عقد الهبة على عقار غير محفظ فحسب المادة 274 من م.ح.ع “إذا كان غير محفظ فإن إدراج مطلب لتحفيظه يغني عن حيازته الفعلية وعن إخلائه” فإنه إذا أبرم عقد الهبة على عقار غير محفظ، وتم إدراجه بمطلب التحفيظ لتحفيظ الملك موضوع الهبة، في اسم الموهوب له، وانتقاله إليه من الواهب، وقام الموهوب له بتقييد الملك الموهوب بالسجلات العقارية، فإن إدراج مطلب التحفيظ يغني هذا التقييد والادراج عن حيازة الموهوب له للملك الموهوب عن الحيازة الفعلية. كما يغني الإدراج والتقييد عن إخلائه وانتقاله من يد الواهب إلى يد الموهوب له. والحيازة الفعلية والاخلاء هما شرطان أساسيان في عقد الهبة، لكن أغنى إدراجه وتقييده بالسجلات العقارية، عن هذين الشرطين.

على أنه إذا وقع عقد الهبة، على عقار غير محفظ ولا في التحفيظ، يتعين حينئذ إخضاع العقد إلى الشروط المقررة في الفقه ومدونة الحقوق العينية، من حيث الكتابة لا بد أن تكون في محرر رسمي، ومن حيث الحيازة المادية، أي لا بد أن يحوز الموهوب له الموهوب به حيازة فعلية. ومن حيث وجوب إخلاء الواهب للملك الموهوب، وتسليمه للموهوب له خاليا من كل شواغله ، حيازة وإخلاء، يتم بشهادة العدلين المحررين لعقد الهبة، وإلا فقدت الهبة أحد الشروط وتعرضت للبطلان ولم يكن لعقدها أثر قانوني.[57]

ب‌-            الحوز في المنقول :القاعدة العامة في المنقولات ،أنه يتم الحوز بين الواهب والموهوب له بالتسليم والقبض عن طريق المناولة والمعاطاة من اليد إلى اليد، إما بالأصالة او بالنيابة، فالواهب حين يخرج الشيء الموهوب من حرزه ويده ويضعه في حرز ويد الموهوب له، يكون قد حوزه إياه، والحيازة في المنقول سند الملكية. وذمة الواهب لا تبرأ إلا بتسليم ما ورد عليه الالتزام قدرا وصنفا، وليس له أن يجبر الموهوب له على قبول شيء آخر، كما أن الحوز في المنقول لا يقف عند حدود التسليم والقبض من اليد إلى اليد، بل يعزز بتسليم الوثائق المثبتة لملكية الشيء الموهوب، حتى تبرأ ذمة الموهوب له عند الاقتضاء في مواجهة الغير[58].

غير أن هذه القاعدة العامة يرد عليها استثناءات يمكن ان نجملها في :

الحوز في الأصول التجارية: ففي هذه الصورة يظهر جليا بأن الحوز الفعلي في المنقول لا يكفي بل لا بد من حوز قانوني لأن الأصل التجاري ولو أنه منقول إلا أنه يبقى لصيقا بالعقار الذي يمارس فيه التاجر تجارته، فيصعب أن نتصور أن الأصل التجاري من المنقول حقا، ويترتب عن ذلك أن الحوز الفعلي ليس كالحوز في المنقول، وإنما هو كالحوز في العقار ومنه يتعين الانتقال إلى المكان الذي يوجد به الأصل التجاري والطواف به للإشهاد بتخلي الواهب عن حيازته وتمكين الموهوب له منه. وبالتالي فإن الحوز الفعلي في الأصول التجارية لا يكون تاما إلا بالحوز القانوني، بتسجيل الهبة بالسجل التجاري.

الحوز في حقوق الملكية الصناعية : الحوز في هذه الحقوق فعلي وقانوني كذلك. فالفعلي يتم بتسليم الشهادة المثبتة للملكية  الصناعية  والقانوني بتسجيل الهبة  الجارية عليها بمكتب الملكية الصناعية، عملا بأحكام  ظهير 23  يونيه 1916 في الموضوع وقرار 21  فبراير 1917  المتعلق بمسطرة تطبيقه، حتى تصح في حق الغير[59].

3- الاعتصار في الهبة :

الهبة تبرع محض، وفي عقود التبرع عامة، هل يكون التزام المتبرع قطعي لا رجوع فيه أم هو التزام ظني يحتمل رجوع الواهب كيفما كان؟ وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في موضوع الاعتصار في الهبة أي الرجوع والارتجاع في الهبة.

لقد اختلفت المذاهب الفقهية في جواز الرجوع في الهبة فذهب المالكية والشافعية والحنابلة، إلى حرمة الرجوع في الهبة ولو كانت بين الإخوة أو الزوجين، إلا في حالة واحدة هي حالة هبة الوالد لولده وهو ما يصطلح عليه عند المالكية باعتصار الهبة. وقد عرف ابن عرفة الاعتصار أنه ” ارتجاع المعطي عطيته بدون عوض، لا بطوع المعطى”،وعالج المشرع المغربي الاعتصار

في مدونة الحقوق العينية ابتداء من المادة 283 إلى المادة 289  منم.ح.ع، وعرفته  المادة 283 على أنه ” يراد بالاعتصار رجوع الواهب في هبته ويجوز في حالتين …” ويعتبر الاعتصار حالة استثنائية ترد على عقد الهبة بناء على حالات معينة تبيح للواهب استرجاع العين الموهوبة، متى لم تكن هناك موانع تحول دون ذلك، ومنه سنقسم موضوعنا إلى نقطتين:

  • حالات الاعتصار في الهبة :

الهبة على ثلاث أنواع :الأولى يقصد الواهب بإنشائها التقرب إلى رضوان الله، كأن ينوي بها صلة الرحم مع قريبه وهي هبة في حكم الصدقة ، لا رجوع فيها للواهب على الموهوب له ، لأن الصدقة لا يرجع فيها  المتصدق. أما الثانية فهي الهبة التي تكون لجلب المودة وقصد وجه المعطى له لعلمه أو شرفه أو صلاحه أو صداقته، وهذه هي الهبة الحقيقية ولا رجوع فيها إلا للأب أو الأم فلهما أن يعتصراها أي يرجعا فيها. أما الثالثة وهي هبة الثواب التي يعطي الموهوب له للواهب مقابلا.

لقد حدد المشرع حالات الاعتصار ولم يترك المجال للتوسع فيها أو القياس عليها، وقد حدد المشرع هذه الحالات في المادة 283 في :

” أولا : فيما وهبه الأب أو الأم لولدهما قاصرا كان أو راشدا؛

ثانيا : إذا أصبح الواهب عاجزا عن الانفاق على نفسه أو على من تلزمه نفقته”

لقد أجاز المالكية الاعتصار في حق الأب والأم ولكنه بشروط، ومنعوه عن الجد والجدة والابن والأخ ومن في حكمهم، وعليه فإن الالتزام في الهبة في هذه الحالة هو قطعي وظني، قطعي بمعنى أنه لا اعتصار لغير الأب والأم. وظني لأنه جائز ولو أنه بالطبع للأب والأم فقط.

والأصل في جواز الاعتصار في الهبة للوالدين قول رسول الله “ص” ” لا يحل للرجل أن يعطي العطية، فيرجع فيها إلا الوالد فيما يعطي لولده”.ومنه فإن ما وهبه الأب على ولده، ذكرا كان أم انثى له أن يرجع فيه ما لم يطرأ مانع من الموانع على الارتجاع. وما تهبه الأم على ولدها، ذكرا كان أم أنثى، لها أن ترجع فيه ما لم يكن الولد صغيرا وقد مات أبوه فلا رجوع لها لسبب يتمه، وقد كانت حالة الاعتصار قاصرة على الأب، ولكن الفقه الحديث سمح للأم بالاعتصار خاصة انه لا يوجد تبرير معقول لتلك التفرقة.

وبناء على ما تقدم يجوز الاعتصار والرجوع في الهبة كيفما كان الولد الموهوب له، كبيرا أو صغيرا، ذكرا أو أنثى كانت للولد أم أو لم تكن، سواء حاز الابن أم لا. أما في التشريع المقارن فنجد قانون الأسرة الجزائري من خلال المادة 211 من قانون الأسرة الجزائري التي تنص على أن ” للأبوين حق الرجوع في الهبة لولدهما مهما كانت سنه إلا في الحالات التالية..” فالمشرع الجزائري بقي متشبثا بأحكام الفقه المالكي التي تقصر حق الرجوع في الهبة على الأبوين وحدهما ما لم يكن هناك مانع يمنعهما من الرجوع.[60]

ويرى الباحث عبد الوحد التكاني أن مسألة اعتصار عقد الهبة تحتاج إلى أكثر من وقفة قانونية لدراسة الحكمة من الترخيص للأب والأم باسترجاع ما وهباه، بالرغم من ان الأصل هو استقرار المعاملات وثباتها وما دام أن تصرف الهبة يؤدي إلى امتيازات قانونية للطرف الموهوب له، وعليه فإنه يتوجب الاحتياط في ممارسة هذا الحق وتطبيقه لا سيما أن صورية التصرفات القانونية متفشية في المعاملات العقارية ، وبالتالي سيكون للاجتهاد القضائي دور مهم في تطبيق نصوص مدونة الحقوق العينية فيما ارتبط بهذه النقطة التي ستحتاج لتكييف قانوني للعملية برمتها حتى يتأتى التطبيق الأنسب للقانون وحفظ حقوق الأفراد.[61]

أما الحالة الثانية: وهي التي يصبح فيها الواهب عاجزا عن الإنفاق على نفسه أو على من تلزمه نفقته”  فالمشرع من خلال هذه المادة جعل للأبوين حق اعتصار ما وهباه لأولادهما دون مراعاة لسن هؤلاء، كما اعطى لغير الأبوين هذا الحق لكنه قيده بضرورة توفر العذر القانوني الذي يخول الاعتصار والمتمثل في إعسار الواهب وعجزه عن الانفاق على نفسه أو على من تلزمه نفقته إضافة إلى عدم وجود مانع من موانع الاعتصار، وواضح أن موقف المشرع يبين تبنيه لموقف الأحناف من مسألة الرجوع في الهبة من خلال عدم قصرها على الأبوين أو على الأصول فقط وإن كان قد ضيق كثيرا من الأعذار التي تخول الواهب الرجوع في الهبة. غير أن ما يجب التأكيد عليه هو أن الاعتصار يبقى مشروطا بإشهاده.

كما أنه من غير المعقول أن يهب شخص عقاره ويصاب بضائقة لا يجد لها مخرجا، ويصبح عاجزا عن تحصيل لقمة عيشه وعيش من معه، والموهوب له يتمتع بالعقار، فقواعد الشريعة الإسلامية تحث على دفع الضرر مقدم على جلب المنفعة، وقاعدة الضرر يزال، تقضي بالسماح للواهب بالرجوع في هبته واسترداد عقاره حتى يخرج من محنته.

غير أن ما يجب التأكيد عليه هو ان اعتصار الواهب لهبته يبقى مشروطا بإشهاده بالاعتصار والتنصيص على ذلك في عقد الهبة وقبول الموهوب له بذلك وهذا بصريح المادة 284 ” لا يجوز للوالد أن يعتصر ما وهب إلا إذا أشهد بالاعتصار، وتم التنصيص عليه في عقد الهبة وقبل ذلك الموهوب له”.

  • موانع الرجوع في الهبة :قواعد الشريعة الإسلامية تقيم دائما التوازن بين المصالح وتعمل على تلافي الأضرار. وحماية للتصرفات المطبوعة بحسن النية، فقد نظمت قواعد الحالات التي لا يجوز فيها الاعتصار ولا يقبل الرجوع، لأن في الرجوع في الهبة مس بحقوق الغير، الذي تولدت له مراكز قانونية على أساس هذه الهبة.

سنتناول موانع الاعتصار في الفقه الملكي أولا ثم العوارض التي نص عليها المشرع في مدونة الحقوق العينية ثانيا.

–         موانع الاعتصار المستمدة من الفقه المالكي :لقد قيد فقهاء المالكية رجوع الأب والأم فيما وهباه للأولاد بقيود تتمثل فيما يلي :

1-   أن تكون الهبة المراد بها ذات الولد، فإن كان مراد بها الصدقة وثواب الآخرة، أو الصلة والحنان لكونه محتاجا أو كثير العيال، أو خاملا بين الناس، فلا يجوز اعتصارها، إلا إذا اشترطه الواهب لنفسه حين الهبة،

2-   أن لا يشترط الواهب منهما على نفسه عدم اعتصار الهبة، فإن شرط ذلك على نفسه، فليس له اعتصارها عملا بشرطه،

3-   عدم فوات الشيء الموهوب عند الواهب، كان يتصرف فيه ببيع او هبة أو صنعة، فإن فات فليس من حق الأب او الأم اعتصاره.

4-   أن لا يلتزم الابن لغيره التزامات مالية من أجل الهبة، كأن يتزوج أو يداينه الناس لأجلها، فإن كان متداينا قبلها أو متزوجا قبلها فلا يمنع اعتصارها منه، لأنه لم يداينه الناس أو يزوجوه من أّجلها،

5-   خلو الواهب والموهوب له من المرض، فإن كان الواهب هو المريض، فلا يحق له اعتصار الهبة حال المرض، لأنه يتهم باعتصارها للوارث لا لنفسه، وإن كان الموهوب له هو المريض فلا يجوز أخذها منه، لتعلق حق ورثته بها، إلا إذا كانت الهبة نفسها وقعت في حالة مرض الواهب والموهوب له، فإنه يصح اعتصارها حال المرض، لأن صاحب المال وقت الهبة هو صاحبه وقت الاعتصار .

هذه القيود مشروطة في ارتجاع الهبة واعتصارها سواء كان الواهب أبا أو أما، ويزاد قيد آخر في إباحة الاعتصار الأم خاصة، وهو أن لا يكون ولدها يتيما، فإنها إن وهبت لابنها اليتيم قبل البلوغ، وقد فقد أباه، فهبتها له في حكم الصدقة، والصدقة لا يجوز ارتجاعها.[62]

–        موانع الاعتصار المستحدثة بمقتضى مدونة الحقوق العينية :

لقد نصت المادة 285  منم.ح.ع على الموانع التي لا يقبل اعتصار الهبة إن وجدت وهي كالتالي:

” لا يقبل الاعتصار في الهبة إذا وجد مانع من الموانع الآتية :

–         إذا كانت الهبة من أحد الزوجين للأخر مادامت رابطة الزوجية قائمة،

–         إذا مات الواهب أو الموهوب له قبل الاعتصار،

–         إذا مرض الواهب أو الموهوب له مرضا مخوفا يخشى معه الموت، فإن زال المرض عاد الحق في الاعتصار،

–         إذا تزوج الموهوب له بعد إبرام عقد الهبة ومن أجلها،

–         إذا فوت الموهوب له الملك الموهوب بكامله، فإذا اقتصر التفويت على جزء منه جاز للواهب الرجوع في الباقي،

–         إذا تعامل الغير مع الموهوب له تعاملا ماليا اعتمادا على الهبة،

–         إذا أدخل الموهوب له تغييرات على الملك الموهوب أدت إلى زيادة مهمة في قيمته

–         إذا هلك الملك الموهوب في دي الموهوب له جزئيا جاز الاعتصار في الباقي “.

ما يلاحظ أن مدونة الحقوق العينية قد سايرت الفقه المالكي في موانع الاعتصار، غير انها أضافت مانعا جديدا يتعلق بالهبة من أحد الزوجين للآخر وقيدته بدوام العلاقة الزوجية، في حين نجد المشرع المصري قد نص في المادة 502 من القانون المدني المصري  على أن ” إذا كانت الهبة من أحد الزوجين للآخر ولو أراد الواهب الرجوع بعد انقضاء الزوجية”  قد أغلق باب  الرجوع في الهبة من أحد الزوجين للأخر ولو انقضت العلاقة الزوجية، وفي هذا قد خالف المشرع المغربي الذي سيفتح باب الصراع بين الزوجين حتى بعد انقضاء العلاقة الزوجية ، مما قد يأثر على إمكانية رجوع الأطراف في حالة الطلاق إلى بعضهما .

  • آثار الاعتصار  :يتضح من المادة 287 من مدونة الحقوق العينية أنه يترتب على اعتصار الهبة، فسخ عقد الهبة ورد الملك الموهوب إلى الواهب، ولا يلتزم الموهوب له برد الثمار إلا من تاريخ الاتفاق او من تاريخ الحكم النهائي في الدعوى ويبقى من حق الموهوب له أن يسترد النفقات الضرورية  التي أنفقها على الملك الموهوب، اما النفقات النافعة ونفقات الزينة فلا يسترد منها إلا ما زاد في قيمة الملك الموهوب، غير أنه إذا امتنع الموهوب له عن رد الملك الموهوب إلى الواهب يعد اعتصاره اتفاق أو قضاء، ورغم إنذاره طبقا للقانون، وهلك العقار الموهوب في يده، فإنه يكون مسؤولا عن هذا الهلاك وذلك بصريح المادة 288  م.ح.ع.[63]

خاتمة :

إن تنظيم المشرع لعقد الهبة ضمن مدونة الحقوق العينية يعد خطوة أولى في إطار إصلاح الترسانة القانونية، ورغم تأخر صدور هذه المدونة إلا أنها كانت نقطة الحسم في الكثير من الجدالات والتجاذبات والتضارب القضائي.

إلا أنه بالرغم من أن المدونة قد أجابت على العديد من التساؤلات والاشكالات المطروحة سابقا لازال على المشرع أن يعيد ضبط بعض المقتضيات المتعلقة بحالات الاعتصار وكذلك أن يواكب التشريع المقارن في حالة موانع الاعتصار بين الزوجين ولو في حالة انقضاء العلاقة الزوجية.

منقول


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

انواع العقود التجارية

   انواع العقود التجارية عقد الرهن التجاري ؟ عقد الرهن هو عقد يرتب حق عيني ...