منظومة القضاء بين مشروع الإصلاح و الإكراهات


منظومة القضاء بين مشروع الإصلاح و الإكراهات

من المؤكد أن قطاع العدل يشكل إحدى الدعائم الأساسية لبناء الدولة الديمقراطية الحديثة ،و من المجالات التي تضطلع بادوار حاسمة  في المساهمة في خلق التنمية الاقتصادية عموما، و التي تؤثر على مجال الأعمال بصفة خاصة،الأمر الذي تؤكده العديد من الدراسات كإعلان القاهرة المنبثق عن المؤتمر الثاني للعدالة العربية الذي اعتبر أن النظام القضائي المستقل يشكل الدعامة الرئيسية لدعم الحريات المدنية و حقوق الإنسان، عمليات التطوير الشاملة و الإصلاحات في أنظمة التجارة و الاستثمار و التعاون الدولي. انطلاقا من كل هذا شكل القضاء بالمغرب موضوع ورش إصلاحيمن خلال مسار تخللته العديد من المراحل التي لم تفرز اية خطة اصلاحية شاملة و نهائية في بداية الامرإلى غاية الخطاب الملكيل 20 غشت 2009 ،الذي تم بعده استصدار ميثاق إصلاح منظومة القضاء،بناء على العديد  منالدراسات والتحقيقات المعدة من طرف مجموعة من الهيئات التي أكدت بدورها على أهمية إصلاح منظومة القضاء و العدل.

فعلاوة على ضرورة توفير ضمانات تتعلق بشروط النزاهة و الشفافية في الإجراءات الإدارية و القانونية المعمول بها في مجال الاستثمار ،وكذا تعزيز الشفافية في الولوج إلى المعلومات المتعلقة بالصفقات العمومية التي تتحكم في حركية الاستثمارات ،فان نزاهة منظومة القضاء و العدل تعد أيضا من الشروط الأساسية التي يمكن أن تؤثر على عملية التنمية عموما وعلى دينامية رؤوس الأموال على وجه الخصوص ،و التي قد تساهم في  تحديد توجهات هذه الاستثمارات و شروط تموقعها ضمن  هذا المجال الترابي اوذاك.

من هنا ،واعتبارا للدور الذي يضطلع به القضاء في  مجال التنمية ، ومراعاة للتوجهات العالمية الجديدة على الصعيد الاقتصادي بما في ذلك توجهات الاستثمارات المباشرة وما يترتب على ذلك من التزامات دولية للمغرب، افرز مسلسل تأهيل القضاء الذي انطلق منذ سنوات التسعيناتتزامنا مع توصيات البنك الدولي،بعض التدابير التي جاءت بمبادرة من جلالة الملك من خلال مجموعة من  الخطب الملكية و لا سيما خطاب 20 غشت 2009 ، الذي شكل قفزة نوعية  في مسلسل إصلاح القضاءالذي يعد ترجمة فعلية للمبادئ والأهداف المتعلقة بإصلاحهذا المجال،إذحددخارطة طريق تقوم على أساس تحقيق ستة أهداف تتمحور أولا حول دعم ضمانات استقلالية القضاء من خلال  منح المجلس الأعلى للقضاء الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة بشفافية ،و ذلك من خلال عضوية تكفل لهذه المؤسسة شروط النزاهة ،بالإضافةإلى مراجعة النظام الأساسي للقضاة بشكل يضمن الاحترافية و التجرد…يضاف إلى ذلك تحديث المنظومة القانونية و لا سيما ما يتعلق بمجال الأعمال و الاستثمار، و ذلك من خلال نهج سياسة جنائية جديدة  تقوم علىمراجعة و ملاءمة القانون و المسطرة الجنائية ،على أن يتم في نفس السياق تطوير الطرق القضائية البديلة كالوساطة و التحكيم و الصلح …كما أن من بين الأهداف التي حددها الخطاب الملكي مسالة تأهيل الهياكل القضائية و الإدارية  على أساس اللاتمركز،متبوعة بتأهيل الموارد البشرية،إلى جانب هذه الأهداف حدد الخطابأيضا الرفع من النجاعة القضائية من خلال تبسيط المساطر…وفي الأخير تخليق القضاء لتحصينه من الارتشاء و استغلال النفوذ…

كلها أهداف شكلت أرضية الانطلاقة بالنسبة للهيئة العليا للحوار الوطني التيبعد إجراء حوار وطني حول الإصلاحأصدرتفي يوليوز  2013 ميثاق إصلاح منظومة العدالة،الذييقدم في واقع الأمرعملية تشخيصية لواقع القضاء  مع تقديمهلمجموعة من المقترحات التي تهدف إلى تجاوز كافة الاكراهات التي تشوب هذا  المجال و التي تشكل في نفس الوقت عائقا أمامخلق دينامية اقتصادية و النهوض بعملية  الاستثمار.فحسب هذا الميثاق تتلخص أهم اختلالات منظومة القضاء في  تراكم النزاعات المعروضة أمام القضاء ،مما أصبح يشكل عبئا ثقيلا على عاتق القضاة ، يضاف إلى هذه الاختلالات توفر السلطة التنفيذية على صلاحيات  اتجاه القضاء من شانه أن يمس بشكل أوبأخر  بمبدأ استقلالية القضاء،كماأن ضعف المقاربة الحقوقية في المنظومة  الجنائية و عدم ترشيد مسطرة الاعتقال الاحتياطي  و تدقيق الضوابط القانونية للوضع رهن الحراسة النظرية من المشاكل المطروحة في مجال القضاء،يضاف إلى ذلك  عدم فعالية  و نجاعة التنظيم القضائي .أمام هذه النقائص قدم ميثاق إصلاح منظومة القضاء مجموعة من المقترحات التي تتمحور بشكلأساسي حول ضرورةفصل النيابة العامة عن السلطة التنفيذية و اسناذ رئاستها إلى الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض ،العمل أيضا على تفعيل الضمانات المتعلقة  باستقلال السلطة  القضائية في بعديها الشخصي و المؤسسي،ثم إحداثمفتشيه عامة بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية تتولى التفتيش القضائي و في نفس الوقت إنشاءمفتشيه عامة بوزارة العدل تتولى التفتيش المالي و الإداري تحت سلطة وزير العدل…

بموازاة مع ميثاق إصلاح منظومة العدالة أثبتت دراسات أخرى أنجزت من طرف هيئات  مختلفة حكومية وأخرى تابعة للقطاع الخاص كالاتحاد العام لمقاولات المغرب، بالإضافة إلى مؤسسات مالية  دولية  كالبنك الدولي و منظمات غير حكومية كمنظمة تروسبرونسي، و أخرىتكتسي طابعا حقوقيا كهيئة الإنصاف و المصالحة ،وجود علاقة تأثير بين استقلال السلطة القضائية  و القضاة من جهة و بين حصول تطورات أساسية في عدد من المجالات كمكافحة الفساد و تبني مقاربة تشاركية في اتخاذ القرار المتعلق بالسياسات العمومية،كما أن هذه الدراسات التي  أجمعت في غالبيتها على تراكم العديد من الاكراهات التي تمس منظومة العدالة  بالمغرب بصفتها إحدى العوامل الرئيسية التي تؤثر بشكل جد سلبي على مجال الاستثمار،وذلك من خلال تقييم بعض هذه الهيئات لمناخ الأعمال بالمغرب.

من بين هده الدراسات نجد على سبيل المثال نتائج التحقيقالدي انجزه البنك الدولي من خلاله مكتبه بالرباط سنة  2004 بخصوص الاكراهاتالتي تعرفها المقاولات التيتمس ابعاد عديدة تهم مجالات التمويل،النظام الجبائي، الإكراهات القانونية،الحكامة…حيث كشفت نتائج هذا التحقيق عن كون  اختلالات القضاء بالمغربتعد من بين العوامل التي تعيق عملية الاستثمارإلى جانب عوامل أخرتتعلق بشكل أساسي بصعوبة الولوج للتموين ،وايضا صعوبات الولوج للعقار، ثم ضعف قطاع التربية و التكوين وهيمنة القطاع غير المهيكل…و يبقى حسب هذه الدراسة تأخر هيكلة القطاع الصناعي من اهم العراقيل التي تعيق عملية الاستثمار.

أما بالنسبة للاتحاد العام لمقاولات المغرب الذي أجرى خلال سنة 2007 دراسة تتعلق بالقضاء إلى جانب مجالات أخرىكالتكوين و الضرائب ،فقد أكد على أهمية نشر المقررات و الأحكام القضائية ،و كذا ضرورة توفير الإمكانيات المالية  الضرورية لضمان تسيير أكثر نجاعة للقطاع ، إضافةإلىتأهيل العنصر البشري و الموارد البشرية العاملة من خلال توفير دورات تكوينية في مجال الأعمالكإجراءات عملية من شأنها  تجاوز العراقيل التي تشوب  قطاع القضاء….

بدورها منظمة تراسبرونسي التي أجرت دراسة  بخصوص هذاالموضوع ،أبرزتفيإحدى نشراتها الإخبارية أن القضاء بالمغرب لا يحظى بثقة المواطنين ولا بثقة الفاعلين الاقتصاديين ، و ذلك  بالنظر إلى النقائص العديدة التي تعتري هذا القطاع الحيوي  و في مقدمتها خضوعه و تبعيته لسلطة السياسة و المال ،الأمر الذي يتجسد على الخصوص من خلال إفلات بعض الفئات المستفيدة  من الحصانات من العقاب،مما يستدعي حسب هذه المنظمة ضرورة الإصلاح.

من جهة أخرى،وبما أن تحديث القوانين من المسائل التي لها صلة بمجال الأعمال،ونظرا لكون مسالة الوساطة و التحكيم تشكل إحدى النقط الأساسيةالتي لها علاقة بإصلاح منظومة القضاء،لا بد من الإشارةإلىأن الاهتمام بالتحكيم بالمغرب  و إن كان  تقليدا قديما، فان التنظيم القانوني لهذه العملية  ظل ضعيفا سواء بمقتضى  ظهير المسطرة المدنية الملغى الصادر في 12 غشت 1913،او بمقتضىقانون المسطرة المدنية الحالي الصادر في 28 شتنبر 1974  الذي خصص الفصول 306 الى 327 للتحكيم،مقارنة معالقانون 08-05 الصادر سنة 2007،الذيبالرغم من بعض النقائص التي تشوبهو المتعلقةاساسا بعدم تضمنه لتعريف بخصوص التحكيم التجاري…،فانه على العموم يعد ايجابيا حيث يتجاوز تلك النظرة التقليدية للتحكيم،كما انه يتضمن مقتضيات متقدمة مقارنة بنظام التحكيم المعمول به في اطار تعديلات 1974 ،حيث أن من بين النقط الايجابية  لهذا النص نجد  توسيع مجال التحكيم ،اضف الى ذلك  القبول بالتحكيم الدولي عندما يتعلق الأمر بتواجد  احد طرفي النزاع على الأقل بالخارج وكذا التمييز بين التحكيم الداخلي و الدولي…

في الختام ، وفي أفق تنزيل مقتضيات دستور2011  الذي خصص 27  مادة للقضاء تتطرق على وجه الخصوص لمسالة السلطة القضائية  وتكريساستقلالية القضاء كسلطة مستقلة عن السلطتين التنفيذية و التشريعية ،و ذلك من خلال منح القضاة مجموعة من الضمانات التي تمنع أي تدخل في القضايا المعروضة عليهم، بالإضافة إلى مقتضيات أخرى تمنع نقل او عزل قضاة الأحكام إلا بمقتضى القانون بل يمكن للقاضي  في حال اعتبر أن استقلاله مهدد أن يحيل الأمر على المجلس الأعلى للسلطة القضائية ،كما أن هذا الدستور يلزم من جهة أخرى  قضاة النيابة العامة بتطبيق القانون و الالتزام في نفس الوقت  بالتعليمات الكتابية القانونية الصادرة عن السلطة التي يتبعون إليها و ذلك  تفاديا لكل  ما من شانه أن يمس بحقوق المتقاضين و حقهم في شروط المحاكمة العادلة.أيضامن النقط الأساسية التي يتضمنها دستور 2011  منح اختصاصات للمجلس الأعلى للقضاء تكرس استقلالية هذه المؤسسة الدستورية و تحددشروطالعضويتها  من شانها أن تضمن النزاهة وتمثيلية لحضور المرأة و لرئيس المجلس الوطني لحقوق الإنسان مع إمكانية الطعن في المقرارات المتعلقة بالوضعيات الفردية الصادرة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية بسبب الشطط في استعمال السلطة أماماعلى هيئة قضائية إدارية بالمملكة ،فضلا عن كل ذلك فان الدستور الجديد يتضمن العديد من المقتضيات التي تضمن حق المتقاضين في شروط المحاكمة العادلة،فانه لايسعنا سوى التأكيد على أن نجاعة أي خطة تروم إنعاش الاستثمارلايمكن أن يتم بمعزل عن إصلاح المنظومة القضائية، كما أنأي ورش إصلاحي لهذا القطاع سيبقى رهينا بمدى حسن تطبيق مقتضيات الدستور الجديد ، لاسيما ما يتعلق  بتكريس استقلال القضاء و توفير شروط النزاهة و الشفافية سواء على مستوى تدبير القطاع او على صعيد المحاكمة…

إعداد:د/ سمية رفاش


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

 أمين البقالي: ماهية الحريات العامة 

ماهية الحريات العامة   أمين البقالي طالب باحث في العلوم القانونية بكلية الحقوق اكدال مقدمـــــة: موضوع ...