الفصل الاول: نطاق الحماية الجنائية للسر المهني
الفرع الأول: النطاق الموضوعي للإلتزام بالسر المهني
المبحث الأول : أساس السر المهني و غاياته
المطلب الأول : الأساس القانوني للإلتزام بالسر المهني
الفقرة الأولى : نظـــرية الــــعــقــد كأساس للالتزام بالحفاظ على السر المهني
أولا: مفهوم نظرية العقد
عقد الوديعة
2: عقد الوكالة
3: عقد إجارة الخدمة
4: العقد غير المسمى
ثانيا: نظرة تقييمية للإتجاه
الفقرة الثانية : نظرية النظام العام كأساس للالتزام بالحفاظ على السر المهني
أولا:مبررات الأخذ بنظرية النظام العام
ثانيا: نظرة تقييمية للإتجاه
الفقرة الثالثة : نــــظرية المـــصلحة
المطلب الثاني : غايات السر المهني
الفقرة الأولى: حـــــماية مصلحة المعني بالسر
أولا: المصلحة الأدبية للمعني بالسر
ثانيا : المصلحة المادية للمعني بالسر
الفقرة الثانية : حماية مصلحة المهنة
أولا: كرامة المهنة و آدابها
ثانيا : تأكيد الثقة الواجبة في ممارسة بعض المهن
الفقرة الثالثة: حماية المصلحة العامة للمجتمع
المبحث الثاني : أنواع السر المهني و مقوماته القانونية
المطلب الأول : أنواع الأسرار المهنية
الفقرة الأولى : أسرار الأفراد
الفقرة الثانية : الأسرار الإدارية
الفقرة الثالثة : أسرار الدفاع عن البلاد
المطلب الثاني : المقومات القانونية للسر المهني
الفقرة الأولى : أن يكون السر قد عهد به بسبب الوظيفة أو المهنة
الفقرة الثانية : أن يكون السر منسوبا و متعلقا بشخص معين
الفقرة الثالثة :كون الواقعة ذات صلة بمهنة الأمين
الفرع الثاني: النطاق الشخصي للإلتزام بالسر المهني( الأمناء على الأسرار)
المبحث الأول: الأمناء المنصوص عليهم في القانون الجنائي و المسطرة الجنائية
المطلب الأول: الأمناء المنصوص عليهم في القانون الجنائي
الفقرة الأولى: أصحاب المهن الطبية
أولا: الأطباء والجراحون وملاحظوا الصحة
ثانيا: الصيادلة والمولدات
1 – الصيادلة
2- المولدات
الفقرة الثانية: أشخاص المهن الصناعية والحرفية
المطلب الثاني: الأمناء على الأسرار المنصوص عليهم في قانون المسطرة الجنائية
الفقرة الأولى: الأشخاص الملزمون بسرية البحث و التحقيق
أولا:مفهوم سرية البحث و التحقيق و رصد مقوماتها القانونية
- تعريف سرية البحث و التحقيق
- العلة من قاعدة سرية البحث و التحقيق
- خصائص سرية البحث و التحقيق
ثانيا: الملزمون بكتمان سرية البحث و التحقيق
- قضاة التحقيق
- الخبراء القضائيون
3 – المترجمون
4- ضباط الشرطة القضائية
الفقرة الثانية: القضاة الملزمون بسرية المداولة
المبحث الثاني: الأمناء على الأسرار المنصوص عليهم في نصوص خاصة
المطلب الأول: المحامي و الموثق
الفقرة الأولى: المحامي
الفقرة الثانية: الموثق
المطلب الثاني :البنكي و موظفي البورصة
الفقرة الأولى: البنكي
الفقرة الثانية : موظفي البورصة
الفصل الثاني
المسؤولية الجنائية عن إفشاء السر المهني
الفرع الأول: أحكام المسؤولية الجنائية عن إفشاء السر المهني
المبحث الأول : أركان جنحة إفشاء السر المهني
المطلب الأول : الركن المادي
الفقرة الأولى : السلوك الإجرامي( الإفشاء)
الفقرة الثانية: المحاولة و المشاركة
أولا: صور المحاولة في جريمة إفشاء السر المهني
ثانيا: أحكام المشاركة
المطلب الثاني : الركن المعنوي
المبحث الثاني : المتابعة و الجزاء في جريمة إفشاء السر المهني
المطلب الأول : الدعاوى المترتبة عن جريمة إفشاء السر المهني
الفقرة الأولى : الدعوى العمومية
أولا:تحريك الدعوى العمومية
ثانيا: سقوط الدعوى العمومية(التقادم نموذجا
الفقرة الثانية : الدعوى المدنية التابعة 85
أولا:المدعي
ثانيا: المدعى عليه
- الفاعل
- الورثة
المطلب الثاني : جزاءات جريمة إفشاء السر المهني
الفقرة الأولى : الجزاءات الجنائية
الفقرة الثانية : الجزاءات المدنية
الفقرة الثالثة : الجزاءات التأديبية
الفرع الثاني : حالات إباحة إفشاء السر المهني
المبحث الأول : حالات الإفشاء المقررة لمصلحة الاشخاص
المطلب الأول : حالة الضرورة
المطلب الثاني: حق الأمين في كشف السر للدفاع عن نفسه أمام القضاء
المطلب الثالث : رضا صاحب السر بالإفشاء
الفقرة الأولى : شروط الرضا بالنسبة لجريمة إفشاء السر المهني
الفقرة الثانية: أثر رضا صاحب السر في الإفشاء
المبحث الثاني: حالات الإفشاء المقررة للمصلحة العامة
المطلب الأول: الإفشاء بمقتضى النص القانوني
الفقرة الأولى: التبليغ عن الجرائم
أولا: التبليغ عن وقوع جريمة
ثانيا: التبليغ عن السر منعا لوقوع الجريمة ( التجريم التحوطي)
الفقرة الثانية: التبليغ عن الولادات والوفيات وبعض الأمراض
أولا: التبليغ عن الولادات والوفيات
ثانيا: التبليغ عن بعض الأمراض
المطلب الثاني: الإفشاء لمصلحة العدالة
الفقرة الأولى: مصلحة التحقيق
الفقرة الثانية: حق الإطلاع في المسائل الضريبية
الفقرة الثالثة: أعمال الخبرة
الفقرة الرابعة: الشهادة أمام القضاء
خاتمة
المراجع
الفهرست
ولما كانت حماية حقوق ومصالح المجتمع وأفراده الهدف الأسمى الذي ينشده القانون، فإن وسائل وآليات هذه الحماية تختلف بحسب طبيعة الحقوق والمصالح التي يتصدى القانون لحمايتها، فمنها ما تكون وسيلة حمايته بتوفير العلانية له، ومنها ما تكون وسيلة حمايته إحاطته بإطار من السرية.[[1]]url:#_ftn1
فوسيلة الحماية بتوفير العلانية هي إعلام الكافة بحق صاحب الشأن حتى لا يتعدى أحد على حقه أو ينازعه إياه، ووسيلة حماية الحقوق والمصالح المحاطة بالسرية هي أن تبقى طي الكتمان وألا يفشيها المؤمن عليها، وإذا كانت الحقوق والمصالح التي يسعى الإنسان إلى إحاطتها بالسرية متنوعة بتنوع تدخلات الإنسان في الحياة المجتمعية، فإن كل فرد يريد الإحتفاظ بأسراره بعيدا عن الجمهور، إلا أنه كثيرا ما يجد المرء نفسه مضطرا إلى البوح بسره إلى غيره بنية الحصول على خدمة أو مساعدة معينة، كما هو الحال عندما يلتجئ الأشخاص إلى بعض المهنيين “ كالأطباء والمحاميين وغيرهم… ، هنا لا جدال في أن السرية تمثل تطبيقا بل ضرورة للثقة المعهودة في هذه المهن، لكن إفشاء السر يشكل خيانة لهذه الثقة ونقصا من مبادئ الشرف والأمانة .
فالأسرار التي يودعها الأفراد لدى المهنيين يطلق عليها “الأسرار المهنية” ، وتعتبر من أدق الإلتزامات التي تقع على عاتقهم ، بل إنها من المواضيع بالغة التعقيد ، هذا راجع لطبيعة هذا الإلتزام، الأمر الذي يجعله يحاط بإطار من الخصوصية و السرية، فالخصوصية هي تعبير عن حق الإنسان في التعامل مع حياته الخاصة بما يراه وهي بهذا المعنى تقترب من السر و لا ترادفه، فالخصوصية قد تتوافر بالرغم من عدم وجود السرية .[[2]]url:#_ftn2
فإذا كان الإعتراف بالحق في الخصوصية يغطي نطاقا كبيرا من أمور الحياة الخاصة ، إلا أنه لا يكفي لتغطية بعض صور الإعتداء على الحق في السرية . ذلك أن السرية تشمل كل ما من شأنه إحاطة حقوق الشخص و إلتزاماته ، و أية أمور أخرى تهمه بسياج من السرية التامة ، فالمريض الذي يلجأ إلى الطبيب ليعرض عليه حالته كثيرا ما تكون له مصلحة في أن لا يعرف أحد شيئا عن المرض الذي يعالج منه، و كثيرا ما يكشف للطبيب عن أمور لا يعرفها أحد عنه ، ولا يود أن يعلمها أحد . و نفس الأمر بالنسبة للشخص الذي يلجأ إلى المحامي ليستشيره ، أو يعهد إليه ببعض قضاياه ، قد يكشف له عن بعض أسراره و خصوصياته التي لا يعرفها أحد عنه ، حتى في محيطه العائلي أحيانا .
ففي هاته الحالات و ما يماثلها ، يكون ثمة شخص مؤتمن على مصالح و أسرار شخص آخر، ووسيلة حماية هذه المصالح و الأسرار ، هي أن تبقى طي الكتمان.
وفي موضوعنا هذا سنقوم بالتركيز على السر المهني المنصوص عليه في الفصل 446 من القانون الجنائي المغربي، فهذا الفصل يرمي إلى حماية الجمهور المتعامل مع صاحب المهنة، و بالتالي فهو يحمي الأفراد عامة، وليس فردا بعينه، أو أفرادا محدودين، مضطرين إلى الإفضاء إلى غيرهم بأسرارهم ، ومن هنا نفهم أن عاملا لدى شخص أو شركة، إطلع على أسرار رب العمل أو الشركة، لا يعد أمينا على الأسرار بمفهوم الفصل 446 من ق.ج.م، فهذا الفصل لا يهدف إلى حماية عقد الشغل أو أي عقد آخر من العقود بصفة خاصة،وهنا نفهم سبب تمييز المشرع المغربي بين الأمناء على الأسرار من خلال هذا الفصل، و الفصل 447 من القانون الجنائي .
- مفهوم السر المهني
اختلفت الأراء في تحديد مفهوم السر المهني فبينما اعتمد البعض معايير لتحديد الواقعة السرية، قام آخرون بوضع تعاريف مختلفة للسر المهني
- المعايير المختلفة في تحديد الواقعة السرية
تعددت الآراء حول تحديد مفهوم السر المهني[[3]]url:#_ftn3 واختلفت المعايير التي نودي بها كأساس لتحديد الصفة السرية للوقائع أو المعلومات التي يراد إضفاء الحماية عليها فذهب البعض الى الأخذ بمعيار الضرر كأساس لتحديد الصفة السرية ، ومنه من ذهب إلى التفرقة بين الوقائع السرية و الوقائع المعروفة وذلك لتحديد سرية الأمر المراد حمايته ،ومنهم من اعتمد على نظرية إرادة المودع في بقاء الأمر سرا .
أ – نظرية الضرر
يرى أصحاب هذه النظرية أن أساس السر هو ما يضر إفشاؤه بسمعة مودعه وكرامته، فإفشاء السر لا يكون جريمة إلا إذا كانت الواقعة المفشاة ذات طبيعة ضارة [[4]]url:#_ftn4 .
تعرضت هذه النظرية للانتقاذ من طرف مجموعة من الفقهاء ، مستندهم في ذلك أنه مهما كانت طبيعة الافشاء فإنه يجب الحفاظ على الثقة الواجبة في ممارسة المهن [[5]]url:#_ftn5 .
ب – نظرية التفرقة بين الوقائع السرية و الوقائع المعروفة
يرى أنصار هذه النظرية أنه لا يعد سرا يستحق الحماية القانونية الواقعة المعروفة للناس، فالإفشاء هو كل عمل ينقل الواقعة المفشاة من واقعة سرية إلى واقعة معروفة ، فلا يكون الإفشاء إذا انصب على جناية أو جنحة عرفت من قبل أو سقطت في مجال المعلومات العامة، فهم يرون وجوب التفرقة بين الوقائع السرية و الوقائع التي كانت معروفة من قبل[[6]]url:#_ftn6 .
تعرضت هذه النظرية بدورها للانتقاذ من طرف مجموعة من الفقهاء على رأسهم ديماريل، متسائلا كيف يفقد الإفشاء طبيعته الإجرامية استنادا إلى معرفة الواقعة من قبل، فهذا الإفشاء معاقب عليه لأنه يؤكد على ماجرت به الشائعات ، ويجب تحديد متى تبدأ ومتى تنتهي هذه الشهرة وهذا الأمر لا يخلو من صعوبة في التطبيق.[[7]]url:#_ftn7
ج – نظرية إرادة المودع في بقاء الأمر سرا
يعتبر أنصار هذه النظرية أن السر يعتبر سرا إذا عهد به صاحبه إلى الأمين على أنه سرا ، وقد جرى العمل القضائي في فرنسا في أول الأمر على تأييد هذه النظرية [[8]]url:#_ftn8
لكن هذه النظرية لم تلق بدورها بالقبول من طرف بعض الفقه وهذا راجع لعدم تحقيقها للمصلحة الإجتماعية .
د- نظرية المصلحة المشروعة
نظرا لشيوع فكرة المصلحة في سائر فروع القانون فإن هذا المعطى قاد البعض إلى أن يلجأ إليها لتحديد مدلول السر، الذي يحميه القانون بوجه عام، أو بالأحرى يحميه العديد من فروع القانون،كالقانون المدني، و القانون الجنائي، و القوانين الإقتصادية، و خاصة قوانين البنوك.
فالعبرة أن يكون الكتمان ، يعود بالنفع أو الفائدة على صاحب السر أو بالأحرى أن يكون الإفشاء ،من شأنه أن يلحق ضررا بصاحب السر أم لا،سواء كان ماديا أو معنويا.[[9]]url:#_ftn9
هكذا و أمام عدم تحديد القانون لمفهوم السر المهني فلا يمكن الأخذ بنظرية دون الأخرى، فالأمر متروك للسلطة التقديرية للقاضي في تحديد مفهوم السر بالارتكاز على النظريات الفقهية السالفة الذكر.
ب- تعريف السر المهني
على الرغم من أن القانون قد جاء خاليا من تعريف السر و تحديد معناه ، إلا أن ذلك لم يمنع الفقهاء من الاجتهاد في وضع تعريف له ،فعرفه بعض الفقه بأنه كل أمر يضر بسمعة الشخص و كرامته[[10]]url:#_ftn10 ، وهناك من يقول بأن السر هو كل ما يعرفه الأمين أثناء أو بمناسبة ممارسته عمله، و يؤدي إفشاؤه ضرر بشخص أو بعائلة ، إما بالنظر إلى طبيعة السر أو بالنظر إلى الظروف التي تحيط به و ثمة من يقول بأن الواقعة تعد سرا إذا كان هناك مصلحة يعترف بها القانون في حصر العلم بها في شخص أو أشخاص محددين [[11]]url:#_ftn11 .
ولا يشترط لقيام السر أن تكون الواقعة قد أفضي بها إلى من أؤتمن عليها، إفضاءا، أي أن يكون المجنى عليه هو الذي تكلم بالسر، و طلب إلى الأمين صراحة كتمانه، فلا تقتصر الاسرار على ما يعهد به صراحة إلى الأمناء عليه، و بالتالي يكفي لقيام السر أن تكون الواقعة قد وصلت إلى علم الأمين بطريق الصدفة، أو بطريق الخبرة الفنية حتى ولو لم يعلم بها صاحبها ، فالطبيب الذي يكتشف أن مريضه مصاب بمرض الزهري ملزم بكتمان السر ولو كان المريض نفسه يجهل المرض، و المحامي الذي يفهم من خلال حديث موكله أنه ارتكب جريمة ، مطالب أيضا بالمحافظة على السر ، ولو لم يفض الموكل صراحة إلى المحامي بذلك[[12]]url:#_ftn12 .
إن الواقعة تظل معتبرة سرا ، حتى ولو علم بها بعض الأشخاص ، فالمحامي الموكل في قضية طلاق مثلا لا يجوز له أن يعلن عن تفاصيل هذه القضية ، حتى ولو داعت،وانتشرت أخبار هذا الطلاق، لأن إفشاء المحامي لأخبار القضية، يضفي التأكيد على وقائع محل شك من قبل الجمهور الذي علم بها[[13]]url:#_ftn13 .
4- أهمية الموضوع
لم أتردد في اختيار موضوع الحماية الجنائية للسر المهني كبحث لنيل الماستر، لكن في نفس الوقت نازعني في اختياري هذا أمران:
أولهما عزوف الباحثين المغاربة عن البحث و الكتابة في هذا الموضوع، فجل الكتابات القانونية في مجال السر المهني سواء من ناحية الحماية الجنائية ، و الحماية المدنية، فكل تقتصر على معالجة نوع واحد من الأسرار المهنية( كالسر المهني للمحامي- السر البنكي– السر المهني للطبيب أو ما يعرف في الفقه بالسر الطبي)
ثانيهما الإرتباط الوثيق للسر المهني بحياة الأفراد الخاصة .
و تنبع أهمية السر المهني العملية لارتباطه بالحق في السرية، و هذا راجع لوجود حالات تقتضي إحاطة حقوق الأفراد بسياج من السرية التامة ، فالشخص الذي يلجأ إلى المحامي ليستشيره أو يعهد إليه ببعض قضاياه ، قد يكشف له عن بعض أسراره وخصوصياته التي لا يعرفها عنه أحد ،حتى في محيطه العائلي.
الأهمية العلمية للسر المهني تكمن في اعتباره من أدق الالتزامات التي تقع على عاتق كثير من المهنيين ، و يعد من المواضيع بالغة التعقيد ذلك أنه يثير العديد من الصعوبات ، التي تدور في إطار مدى إعتباره إلتزاما عاديا ، أم أن له خصائص ذاتية تجعله ينفرد بمقومات خاصة، بالإضافة لمساسه بمختلف فروع القانون الامر الذي يجعله موضوع جد متشعب.
5– التطور التاريخي لسر المهني
إن تحريم إفشاء بعض الأسرار المهنية معروف منذ القدم ، و الحكمة من هذا التحريم هي أن كتمان السر واجب خلقي قبل كل شيء، تقتضيه مبادئ الشرف و الأمانة .
فإفشاء السر جريمة خلقية قبل أن يكون جريمة مدنية، أو جنائية، فالحياء العام يتأذى من هذا الإفشاء، كما يترتب عليه ضرر بالمصلحة العامة .
وقد عرفت مجموعة من الشرائع القديمة السر المهني، كاليونان و الرومان و القانون الكنسي ، هذا بالإضافة إلى الإهتمام الخاص للشريعة الإسلامية بالحفاظ على الأسرار.
- السر المهني في الشرائع الوضعية القديمة
عرفت الشرائع الوضعية القديمة السر المهني ، خاصة شريعة الإغريق( اليونان) و شريعة الرومان و القانون الكنسي ، و سنقوم بتقديم ما كان يمثله السر المهني بالنسبة لهاته الشرائع.
- السر المهني عند اليونان
لم يكن إفشاء السر المهني عند اليونانيين القدامى معروفا كجريمة متوافرة الأركان و ليس معنى ذلك أن الإفشاء كان مباحا ، فقد كانت لديهم دعوى مرنة تطبق على الوقائع غير الشرعية لتعويض الضرر الناجم عنها، واهتم اليونانيون بصفة خاصة بـمــهـنة الطـب و أسـرارها ، ويدل على ذلك قسم أبـوقراط [[14]]url:#_ftn14 ، و إذا أفشى الطبيب السر وخالف هذا القسم يلجأ المريض إلى الله لينتقم منه ، كما يستطيع رفع دعوى أمام القضاء ليمنحه تعويضا مناسبا نتيجة إهدار الثقة التي منحها له المريض.[[15]]url:#_ftn15
- السر المهني عند الرومان
أفرد القانون الروماني لجريمة إفشاء الاسرار جزاءات جنائية تختلف باختلاف الفاعل و طبيعة الإفشاء ، وكانت العقوبة المطبقة كقاعدة عامة في عقوبة التزوير كما صرح مرسنانوس في الديجست[[16]]url:#_ftn16 ، فالمحامي الذي يخالف الإلتزام بالسر المهني للعميل يعد خائنا.
كما اهتم الرومان بسرية المراسلات، فكان سعاة البريد يشترط فيهم صفات خاصة كقوة الذاكرة . و مع تطور الكتابة تسلم هؤلاء الرجال رسائل مكتوبة، لحملها إلى أي مكان مع جهلهم لمضمونها فكان السر محفوظا تماما.
و الواقع أن القانون الروماني لم يقدم إلا شروعا في نظرية السر المهني ، ولم يهتم بالتوسع في صياغة عقوبة جنائية و لعل ذلك راجع إلى ما كانوا يعتقدونه من وجود مبادئ أخلاقية أكثر قوة من قواعد القانون[[17]]url:#_ftn17 .
- السر المهني في القانون الكنسي
لم يفرد القضاء الديني في أوروبا عقابا عن إفشاء السر المهني إلا بالنسبة لطبقة معينة من الناس هم قساوسة الكنيسة ، أما بالنسبة للأشخاص العاديين فقد كان اختصاص الكنيسة مقتصرا على الأفعال المخالفة للعقيدة ، وهذه الصفة لا تنطبق على إفشاء سر المهنة بواسطة الطبيب أو المحامي .
وقد نصت القوانين الدينية على مبدأ سر الإعتراف فمنعت إفشاء الإعترافات المدلى بها أمام محكمة التوبة و كان العقاب على إفشاء السر قاسيا ، فإذا أفشى الكاهن سر الإعتراف عزل في مكان بالدير بقية حياته مع عزله من الوظيفة ، مما يدل على خطورة هذه الجريمة.[[18]]url:#_ftn18
ب – السر المهني في الشريعة الإسلامية
عنى الإسلام بتنظيم جوانب الحياة المختلفة بحفظ الأسرار و كتمانها سواء ما يتعلق بالأفراد و بالدولة ،وأمر المسلمين جميعا بأن يحفظوا أسرارهم وأن يستروا عوراتهم لأن ذلك أدوم للألفة و أصون لحقوق الافراد و الجماعات ، و يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ((استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود)).
وقد اهتم الإسلام بالحفاظ على أسرار الأفراد ، إذ أمر الرسول عليه الصلاة و السلام بكتمان أسرار الغير بقوله (( لا يستر عبد عبدا في الدنيا إلا ستره الله يوم القيامة)) كما أمر صلوات الله عليه بكتمان ما يدور في المجالس وعدم إفشائه من حاضريه [[19]]url:#_ftn19 ، فالمسلم إذا حضر مجلسا ووجد أهله على منكر وجب عليه أن يستر عورتهم فلا يفشي ما رأى منهم لأن في الإفشاء إثارة البغض و التنافر و زوال الثقة بين بعضهم البعض ومتى ضاعت الثقة زال التعاون فيما بينهم .
ومن بين الأسرار التي عنى الإسلام بكتمانها أسرار المرضى ، فأوجب على الحاكم بأن يأخذ على الأطباء عهدا وقسما بأن لا يعطوا أحدا دواء ضارا وأن لا يفشوا الأسرار.
وقد اهتم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم رضوان الله عليهم و التابعين بأمر كتمان الأسرار [[20]]url:#_ftn20 .
بالإضافة إلى أسرار الأفراد ، أولى الإسلام عناية خاصة بأسرار الدولة، و اعتبر أن من أخطر الأشياء على الدولة إفشاء أسرارها الحربية و تمكين الأعداء من معرفة مقدار عتادها الحربي و أسرار حصانتها ، ولقد كان رسول الله صلى الله عليه و سلم يحتذى في كتمان أسرار خططه و غزواته و حروبه ، فإذا هم بالخروج إلى الحرب يشير إلى ناحية غير التي يرومها .
وقد حرص صحابة رسول الله صلى الله عليه و سلم على حفظ الأسرار وقد أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يوصي قائد جيشه :(( إذا أقدم عليك رسل عدوك أكرم مثواهم، و أقلل حبستهم حتى يخرجوا من عندك جاهلين ما عندك ))
6 – إشكالية البحث
تكمن الإشكالية الرئيسية لموضوع “الحماية الجنائية للسر المهني” في مدى نجاعة و قدرة المقتضيات القانونية ذات صلة بالحماية الجنائية للسر المهني في التوفيق بين حق الإنسان في المحافظة على أسراره الخاصة ، وحق المجتمع في ضرورة الاطلاع على هذه الأسرار لمجموعة من الاعتبارات منها ما يتعلق بحماية المصلحة العامة للمجتمع ، ومنها ما يتعلق بخدمة العدالة .
7- منهج البحث و خطته
في ضوء الإشكالية المثارة سالفا، سأقوم بمعالجة هذا الموضوع معتمدا في ذلك على منهج تحليلي يعتمد على تحليل النصوص القانونية و عرض و مقابلة آراء الفقهاء المختلفة و تقييمها.
كما أن معالجة هذا الموضوع تقتضي منا الإعتماد كذلك على المنهج المقارن لمعرفة أوجه النقص أو بعض الإختلافات الموجودة ، بين التشريعين المغربي و المقارن.
وإجمالا فقد أنتهجت في دراستي سبيلا منطقيا يسير جنبا إلى جنب مع تسلسل الأفكار، و لهدف بلوغ الغاية من الدراسة، و تأسيسا على ما تقدم سوف أقسم هذا البحث إلى فصلين:
الهوامش
Le CD –ROM Dalloz Code de procedure penal et droit penal Ed 2007
قرار محكمة النقض الفرنسية سنة 1845 ” يجب على الطبيب إلا يمتنع بحجة السرية عن أداء الشهادة عما لم يعهد المريض به إليه ، فإن كتمانه يضر العدالة “.
Encyclopédie universalis : http://www.universalis.fr/encyclopedie/digeste
Date : 19/4 /2011 Heure 10 :56