التقلبات النقدية ونظام تنفيذ الالتزامات
تعد ظاهرة تغير قيمة النقود ظاهرة عالمية تجتاح الدول على مختلف مستوياتها الاقتصادية، وتؤثر بشكل سلبي على الالتزامات التعاقدية، حيث يختل التوازن الاقتصادي للعقود مما يضر بمصلحة احد طرفي العقد.
يثير هذا الموضوع عدة اشكاليات، تتجلى على الخصوص في مدى تاثير التقلبات النقدية على نظام تنفيذ الالتزامات التعاقدية؟ وكيف تعامل المشرع المغربي و القضاء مع اثار هذه الظاهرة؟
لقد قلنا في البداية ان التقلبات الاقتصادية وبشكل خاص التقلبات النقدية، تؤثر بشكل سلبي في الالتزامات التعاقدية، خاصة في العقود المستمرة و العقود المؤجلة التنفيذ، هذه التقلبات قد تؤدي الى انهيار التوازن الاقتصادي الذي قام عليه العقد عند ابرامه، حيث لم يكن من المتوقع ان تتغير قيمة العملة، لذلك فان ترك الامر دون معالجة، كما هو الشان بالنسبة لموقف ق ل ع سيؤدي بدون شك الى اصابة احد طرفي العقد بارهاق شديد ( المبحث الاول)، مما يستوجب تدخل المشرع للسماح للقاضي المغربي باعادة التوازن الى العلاقة العقدية و ذلك بتبني الحلول المتبعة في التشريعات المقارنة (المبحث الثاني).
المبحث الاول: التقلبات النقدية وتاثيرها على تنفيذ الالتزامات:
تعد التقلبات النقدية مصدرا لاختلال التوازن المالي للعقد، حيث يصبح الالتزام مرهقا بالنسبة لاحد طرفي العلاقة التعاقدية(المطلب الاول)، خاصة مع رفض ق ل ع و القضاء المغربي معالجة هذه المسالة(المطلب الثاني).
المطلب الاول: التقلبات النقدية مصدر لاختلال التوازن المالي للعقد:
تخل التقلبات النقدية بالتوازن المالي بين الالتزامات المتولدة عن العقد، فيصبح تنفيذها بالنسبة لاحد طرفي العقد عبئا مرهقا له يهدده بخسارة كبيرة، ومثال ذلك التزام شخص بتوريد سلعة معينة لمدة معينة على فترات محددة وبثمن موحد متفق عليه، فتحدث ازمة اقتصادية لم تكن متوقعة من طرفي العقد، ترفع نفقات انتاج السلعة ارتفاعا كبيرا مما يجعل استمرار توريد السلعة يهدد المتعهد بالتوريد بكارثة مالية، ومن الامثلة الاخرى الكثيرة الحدوث هي انخفاض او ارتفاع سعر الدين.
وقد عالجت التشريعات الاجنبية هذه الظاهرة وذلك باقرار نظرية الظروف الطارئة، ومقتضى هذه النظرية ان يحدث في العقود المستمرة او المؤجلة التنفيذ تغير في ظروف ابرام العقد على اثر حادث طارئ عام لم يكن متوقعا، فيصبح تنفيذ الالتزام معها مرهقا لاحد المتعاقدين ، مما يجيز للقاضي ان يرد الالتزام المرهق الى الحد المعقول، اما عن طريق زيادة الالتزام المقابل او انقاص الثمن او القيمة المتعاقد عليها.
فماهو اذن موقف ق ل ع و القضاء المغربي من تاثير التقلبات الاقتصادية على التزامات المتعاقدين؟
المطلب الثاني: رفض ق ل ع والقضاء المغربي معالجة اختلال التوازن المالي للعقد:
اذا نشا العقد صحيحا بين المتعاقدين اعتبر بمثابة قانونهما الخاص وشريعتهما، يتعين عليهما تنفيذه كما هو ، دون اي تغيير او تبديل، وعند حدوث اي اختلال في التوازن المالي للعقد لا يمكن معه التدخل لاعادة التوازن، حيث لا يزال ق ل ع رافضا لنظرية الظروف الطارئة وهو في هذا ينهج نهج القانون المدني الفرنسي، حيث يبقى المدين مجبرا على تنفيذ التزامه حتى لو طرات حوادث استثنائية لم يكن في الوسع توقعها، واصبح معها تنفيذ الالتزام مرهقا.
فقانون الالتزامات و العقود المغربي يكرس مبدأ الحرية الرضائية، ومبدا العقد شريعة المتعاقدين، فالعقود قائمة على اساس الرضى وحده ، ولا يجوز تغييره الا باتفاق جديد يبرم بين الاطراف لهذه الغاية، ف ق ل ع جعل اذن من حرية التعاقد هو المبدا الاساسي و الاصل ، اذ لم يراع الارهاق الذي يمكن ان يلحق باحد المتعاقدين من جراء تقلب الظروف الاقتصادية ، وبعبارة اخرى لم ينص على نظرية الظروف الطارئة رغم الاتجاه الذي تسير عليه اغلب التشريعات .
والقضاء المغربي فضل هو كذلك سيادة الاتفاقات ولم يحاول الاخذ بنظرية الظروف الطارئة ، وذلك لكون ق ل ع لم يتضمن نصا عاما للنظرية. ولم يسمح للقاضي المغربي ان يتدخل لتعديل بنود العقد، ولم نصادف عند دراسة هذا الموضوع اي اجتهاد قضائي مغربي طبق نظرية الظروف الطارئة، فالقاضي المغربي لا يمكنه في ظل النصوص الحالية ل ق ع ان يراجع العقود بناء على وجدانه، فعمل القاضي يتجلى فقط في فهم العقد وفقا للنهج الذي رسمه له القانون، ثم تطبيق بنوده على اطرافه.
ويبدو ان الغرض من عدم اعتراف ق ل ع بنظرية الظروف الطارئة هو حماية استقرار المعاملات و الوقوف حائلا دون تقديم طلبات كيدية يكون مضمونها تعديل العقد ، لكن هذا لا يمنع من القول بضرورة تدخل المشرع لاقرار هذه النظرية لما لها من فوائد في الحد من الاثار السلبية لظاهرة الظروف الاقتصادية الطارئة مع وضع شروط صارمة لتفادي الاستغلال السيئ لها
المبحث الثاني: ضرورة تدخل المشرع المغربي للسماح للقاضي باعادة التوازن المالي للعقد:
لقد ظهرت في التشريع المغربي حالات تؤدي الى تعديل الالتزام و هي احد الاسباب المشجعة للقول بضرورة اقرار ق ل ع لنظرية الظروف الطارئة(المطلب الاول)، وذلك بدراسة تطبيقات هذه الاخيرة في التشريع المقارن ومحاولة تفادي سلبياتها للوصول الى الحل الامثل( المطلب الثاني).
المطلب الاول: الاسباب الموجبة لتدخل المشرع:
من بين الاسباب الموجبة للقول بضرورة تدخل المشرع لاقرار نظرية الظروف الطارئة هو وجود حالات في تشريعنا تؤدي الى تعديل الالتزام، ومن امثلة ذلك مراجعة السومة الكرائية للمحلات التجارية حيث ينص الفصل الثاني من ظهير 5 يناير 1953 الخاص بالمراجعة الدورية لاثمان الكراء على ما يلي:” يمكن لكل طرف ان يحصل كل 3 سنوات على مراجعة الكراء اذا نجم عن تقلب الظروف الاقتصادية تغيير القيمة الكرائية المحددة رضائيا او بمقرر قضائي…” فالظروف الاقتصادية في هذا الفصل لا تشكل ظرفا طارئا ولكنها تقترب منه(1)، كما انه من بين الحالات الاخرى الزيادة او الانقاص من النفقة الشرعية ومراجعة ثمن الصفقات(2) و الخدمات، كذلك وجود الفصل 264 من ق ل ع الذي يسمح للمحكمة بتخفيض التعويض المتفق عليه اذا كان مبالغا فيه او الرفع من قيمته اذا كان زهيدا ، ولها ايضا ان تخفض من التعويض المتفق عليه بنسبة النفع الذي عاد على الدائن من جراء التنفيذ الجزئي.
فكل هذه الحالات التي تسمح بتعديل الالتزام يمكن ان تشكل ارضية يمكن التنبأ من خلالها على امكانية اقرار المشرع المغربي في المستقبل لنظرية الظروف الطارئة .
كذلك من بين الاسباب التي تدعو الى القول بتدخل المشرع المغربي لاقرار نظرية الظروف الطارئة هي مواكبة التشريعات العربية و الاجنبية التي تسمح بتدخل القاضي لاعادة التوازن المالي للعقد. وتجنب الاثار السلبية للتقلبات الاقتصادية على نظام تنفيذ الالتزامات.
فكيف يمكن في ظل هذه الوضعية صياغة حل مناسب لتجاوز هذه الوضعية؟؟
المطلب الثاني: الحلول المقترحة لتجاوز هذه الوضعية:
لقد عالج بعض الفقه المغربي(3) هذه المسالة واقترح عدة حلول وصيغ مختلفة معتمدا في ذلك بالاساس على القانونين السوري و المصري حيث تنص المادتين 148 و من القانون المدني السوري و 147 من القانون المدني المصري على ان :”
1-العقد شريعة المتعاقدين فلا يجوز نقضه و لا تعديله الا باتفاق الطرفين او للاسباب التي يقرها القانون.
2- ومع ذلك اذا طرات حوادث استثنائية عامة لم يكن في الوسع توقعها وترتب على حدوثها ان تنفيذ الالتزام التعاقدي، وان لم يصبح مستحيلا،صار مرهقا للمدين بحيث يهدده بخسارة فادحة، جاز للقاضي تبعا للظروف، وبعد الموازنة بين مصلحة الطرفين ان يرد الالتزام المرهق الى الحد المعقول، ويقع باطلا كل اتفاق على خلاف ذلك”.
واقترح بعض الفقه ادخال بعض التعديلات على الفقرة الثانية المذكورة اعلاه كما يلي:
1 -تعميم الصيغة حتى تشمل كذلك الالتزامات المتولدة من تصرفات الارادة المنفردة.
2 -استبعاد عبارات الارهاق و الخسارة الفادحة لانها معايير شخصية و ترسيخ معيار موضوعي ينسجم مع صفة التعميم و الشمولية للقاعدة القانونية(4).
وهكذا يمكن ان نخلص الى ان التقلبات الاقتصادية وخاصة النقدية تؤثر بشكل سلبي على نظام تنفيذ الالتزامات وان ترك الامر دون معالجة فيه اضرار بمصلحة احد الاطراف مما يكون معه منطقيا القول بضرورة تدخل المشرع لمعالجة الاثار السلبية لهذه الظاهرة startimes.com