الجمعيات العامة للمحاكم بالمغرب
لم يسبق أن حظيت الجمعيات العامة للقضاة بالمحاكم بالاهتمام الوطني الذي تعرفه خلال الآونة الأخيرة، ولعل من أسباب ذلك اهتمام الجمعيات المهنية للقضاة وبالأخص جمعية نادي قضاة المغرب بهذا الموضوع باعتباره أحد المداخيل الأساسية لاستقلال القضاء.
ماهية الجمعيات العامة للمحاكم :
يقصد بالجمعية العامة للمحاكم تلك “المؤسسة الموكول إليها تنظيم المصلحة الداخلية للمحاكم”، وهي إطار يضم جميع القضاة المنتمين إلى محكمة معينة سواء كانوا من قضاة الأحكام أو قضاة النيابة العامة، فضلا عن المسؤولين القضائيين، وبحضور رئيس كتابة الضبط. وتعقد جلساتها في الأحوال العادية خلال اجتماع سنوي في النصف الأول من شهر دجنبر من كل سنة، وقد تعقد اجتماعات أخرى طارئة إذا استدعت الضرورة ذلك.
ويعتبر تفعيل الجمعيات العامة للقضاة بالمحاكم من مقومات استقلال القضاة خصوصا والسلطة القضائية على وجه العموم ، إذ أن توزيع القضايا بين القضاة ينبغي أن يتم وفق معايير موضوعية لا تتأثر بمعطيات شخصية كالرغبات التي قد تصدر عن أحد أطراف الدعوى أو الجهات المتدخلة فيها، بل وبمعزل عن ارادة الادارة القضائية، ولا يجوز سحب قضية قيد النظر من قاضي معين دون أسباب وجيهة وطبقا للقانون (على سبيل المثال حالة تضارب المصالح)، بل أن بعض الآراء أوصت بضرورة صدور قرار السحب عن هيئة قضائية مستقلة طبقا للتوصية رقم 12 الصادرة بتاريخ 1994 عن لجنة الوزراء التابعة لمجلس أوربا.
اختصاصات الجمعيات العامة للمحاكم :
يخضع تنظيم الجمعيات العامة للمحاكم حاليا لأحكام المرسوم عدد 498.74.2 الصادر تطبيقا لظهير 15 يوليوز 1974 المتعلق بالتنظيم القضائي، والذي حدد اختصاصاتها في :
استعراض حصيلة عمل المحكمة خلال السنة القضائية من خلال الوقوف على المنجزات وتدارس العراقيل التي قد تواجه سير العمل العادي بها.
وضع برنامج الجلسات وتشكيل الهيئات القضائية من خلال:
تحديد عدد الغرف والأقسام وتكوينها،
توزيع الأشغال والمهام بين السيدات والسادة القضاة،
تحديد أيام وساعات الجلسات،
توزيع القضايا بين مختلف الغرف والأقسام.
واقع الجمعيات العامة للمحاكم :
مبدئيا يمكن القول أن التنظيم القانوني لتوزيع الأشغال بالمحاكم والذي يعد جزء من التنظيم القضائي يعتبر من الناحية النظرية جد متقدم بالنظر إلى تاريخ إقراره (17 يوليوز 1974) وذلك نظرا لما يعكسه من حكامة جيدة في تدبير مرفق العدالة، لكن على المستوى العملي لا بد من الاعتراف بأن أغلب الجمعيات العامة بالمحاكم تبقى معطلة، وتشتغل بطريقة غير ديمقراطية، إذ يستأثر المسؤول القضائي بسلطة توزيع الأشغال بين القضاة وتحديد مواعيد الجلسات، بل وبتغيير هذا التقسيم بشكل انفرادي وبدون حاجة لعقد جمعية عامة جديدة، ولعل ذلك ما يفسر التصريح الشهير لرئيس نادي قضاة المغرب في إحدى الندوات الذي قال فيه: “الجمعيات العامة بالمحاكم ديكتاتورية”.
ان “ديكتاتورية” الجمعيات العامة التي تختزل في واقع الأمر في ارادة المسؤول القضائي وبعض الأعضاء المقربين منه، تظهر بشكل جلي من خلال عدة تمظهرات أبرزها الكولسة التي تتم بها عملية توزيع الجلسات والمهام بين مكونات المحكمة، بشكل أدى إلى تحويل موعد انعقاد الجمعية إلى مجرد لقاء عابر يكتفي فيه المسؤول القضائي بإبلاغ قضاة المحكمة بالتوزيع الذي ارتضاه لهذا المرفق الذي يتولى تسييره، لدرجة أن موعد انعقاد كثير من الجمعيات العامة بعدد من المحاكم تحول إلى ما يشبه الطابوهات أو الأسرار التي لا يعلن عنها إلا في التوقيت المناسب.
أي دور لتكتلات القضاة لتغيير واقع جمعياتهم العامة بالمحاكم؟
كشفت التقارير الذي أنجزتها عدة مكاتب جهوية تابعة لنادي قضاة المغرب في اطار المبادرة التي دشنها النادي لتشخيص واقع هذه الجمعيات العامة استمرار اشتغالها في معزل عن المقاربة التشاركية بسبب تعسف بعض المسؤولين القضائيين وانفرادهم بسلطة توزيع الشعب والجلسات على القضاة مستغلين في ذلك سلاح التنقيط، ولامبالاة بعض القضاة، وما زاد في افراغ الجمعيات العامة من كل محتوياتها اعتماد مبدأ التفويض للمسؤولين القضائيين وهي تلك الآلية التي يفوض فيها القضاة للمسؤول القضائي تغيير توزيع الشعب عند وجود طارئ بدون حاجة إلى انعقاد الجمعية العامة الشيء الذي أسهم في بعض الاحيان إلى تحويل هذه الآلية عن مسارها القانوني وجعلها أداة لمحاولة التأثير غير المشروع في استقلال القرار القضائي.
هل تفلح مذكرة وزارة العدل في اعادة الروح للجمعيات العامة للمحاكم:
أمام ارتفاع حدة الانتقادات الموجهة لطريقة عمل الجمعيات العامة للمحاكم من طرف جمعية نادي قضاة المغرب تدخلت وزارة العدل والحريات وعملت على تعميم مذكرة موجهة للسادة الرؤساء الأولين و الوكلاء العامين والرؤساء ووكلاء الملك بمختلف محاكم المملكة تحت عدد “47 دي”، مؤرخة في 10 ديسمبر 2012، من أجل التذكير بالمقتضيات المنظمة للجمعيات العامة والدعوة إلى تفعيلها بالشكل الصحيح. وجاء فيها :”..وبعد، لا يخفى عليكم أن الهدف من عقد الجمعيات العامة لمحاكم المملكة، هو استعراض ما حققته هذه المحاكم خلال السنة القضائية من منجزات بفضل تضافر جهود كل العاملين بها من قضاة وموظفين والتداول فيما يمكن أن يؤثر على حسن سير العمل العادي بها لسبب من الأسباب وحشد همم القضاة لتطوير أدائهم ووضع برنامج الجلسات وتشكيل الهيئات القضائية مع الحرص على اشراك الجميع في تقديم الاقتراحات المناسبة للرفع من الأداء الجيد للمحاكم في تحقيق العدالة ليكون القضاء حقا في خدمة المواطن كما دعا إلى ذلك جلالة الملك حفظه الله في خطاب 8 اكتوبر 2010 بمناسبة افتتاح الدورة التشريعية،
غير أنه بلغني أن مسؤولي بعض المحاكم يلجؤون إلى إدخال بعض التعديلات على برنامج توزيع الأشغال بين القضاة وتكليف بعضهم بمهام إضافية أو إعفاء بعضهم من مهام كلفوا بها بمقتضى الجمعية العامة، دون عقد جمعية عامة للمحكمة،
واعتبارا لما ذكر، واسهاما منكم في تفعيل المقتضيات الدستورية التي عززت من استقلال القضاة، ودعما لانخراطكم في تعزيز هذه الضمانة الدستورية فإنني أهيب بكافة السادة المسؤولين القضائيين بالحرص على اتخاذ القرارات اللازمة من خلال الجمعية العامة للمحكمة، التي يمكن أن تعقد اجتماعاتها في كل وقت وحين، كلما دعت الحاجة إلى ذلك، أو اعتبر الرئيس ذلك مفيدا، طبقا لما ينص عليه الفصل 6 من المرسوم رقم 2.74.498 الصادر بتاريخ 16/07/1974 الصادر تطبيقا للظهير الشريف رقم 1.74.338 بتاريخ 15/07/1974 المتعلق بالتنظيم القضائي.
هذا ومعلوم أن التدبير الجيد للإدارة القضائية يتطلب تعيين قضاة مكلفين بالنيابة عن زملائهم الذين قد يضطرون للتغيب عن الجلسات لسبب من الأسباب بشكل مسبق، يأخذ بعين الاعتبار ضرورة ضمان السير العادي للمحاكم بما فيها فترات الرخص السنوية الخاصة بالقضاة.
كما أدعو بنفس المناسبة السادة المسؤولين القضائيين إلى الحرص على ممارسة اختصاصاتهم القضائية شخصيا وعدم اسنادها لغيرهم من القضاة إلا عند الضرورة القصوى.”
ورغم هذه المذكرة التي لم يتعدى امد تطبيقها مدة سنة استمر تسجيل عدة حالات لخرق الجمعيات العامة بالمحاكم حسبما يستفاد من البيانات الصادرة عن عدد من المكاتب الجهوية لنادي قضاة المغرب، والتي تحدتث عن تسجيل خروقات سنة 2013 بمحاكم متعددة مما يطرح أكثر من سؤال حول ما اذا كان محتما على الوزارة القيام بتعميم مذكرة جديدة لتذكير المسؤولين القضائيين بضرورة احترام دمقرطة الجمعية العامة ووجود مقتضيات قانونية وتنظيمية تلزمهم بذلك .
أي موقع للجمعيات العامة للمحاكم في مشاريع الاصلاح الجديدة؟
سبق لنادي قضاة المغرب أن أبدى عدة تحفظات بخصوص مسودة مشاريع قوانين السلطة القضائية لكونها أغفلت التنصيص على أدوار الجمعيات العامة، وكان جواب الوزارة حينئذ، أن مكان تنظيم المقتضيات القانونية بهذا الموضوع هو قانون التنظيم القضائي وليس مسودة قوانين السلطة القضائية!
لكن هذا الجواب يبقى نظريا أكثر منه واقعيا نظرا لصعوبة التمييز بين مجالات تدخل القانون التنظيمي والقانون العادي من جهة، وتزاحم المقتضيات القانونية المنظمة للوضعية المهنية للقضاة وحقوقهم وواجباتهم بتلك المقتضيات التي لها علاقة مباشرة بالجمعية العامة من جهة أخرى ، وحتى وان سلمنا بهذا الجواب جدلا، وحاولنا أن نبحث عن موقع الجمعية العامة بمسودة قانون التنظيم القضائي الجديد الذي تم الاعلان عنه مؤخرا، فإننا سنقف عند وجود مفارقة غريبة تبرز بوضوح واقع وآفاق الاصلاح المنشود لمنظومة العدالة، فعوض الارتقاء بطريقة عمل الجمعيات العامة للمحاكم والاهتداء بأفضل التجارب الدولية في هذا المجال، عمل مشروع التنظيم القضائي الجديد على تكريس الممارسات “السيئة” الموجودة اليوم بعدد من المحاكم حيث يتم تغييب المقاربة التشاركية ويستأثر المسؤول القضائي وبعض المقربين منه بجدولة الجمعية العامة.
فإذا كانت المذكرة التقديمية للمشروع الجديد حاولت أن تعطي انطباعا أوليا بوجود تغيير ايجابي قد طرأ على اختصاصات وصلاحيات الجمعيات العامة لمحاكم الموضوع في اتجاه التوسيع إلا أن المطلع على ثنايا التعديل الجديد يلحظ محدودية هذه المستجدات التي عملت على اقبار الجمعية العامة واغتيال أي أمل لإعمال المقاربة التشاركية في عملها، الشيء الذي يظهر بجلاء من خلال طريقة تشكيل المكتب جاءت حكرا على المسؤولين القضائيين ونوابهم والقضاة الذين يعتبرون بحكم مناصبهم مسؤولين بالمحكمة (رؤساء الأقسام والغرف) بالإضافة إلى قيدوم القضاة وأصغر القضاة سنا، فضلا عن تهريب أهم القرارات من الجمعية العامة إلى مكتب المحكمة المعين من طرف المسؤول القضائي، لتتحول الجمعية العامة إلى مجرد هيئة للمصادقة الشكلية في الوقت الذي أضحى من صلاحيات المكتب تنظيم المصلحة الداخلية للمحكمة، ووضع مشروع تنظيم العمل بها من خلال تحديد عدد الأقسام والغرف وتكوينها، وتوزيع القضايا والمهام بين القضاة، وأيام وساعات انعقاد الجلسات.
وما يؤكد هذا الاعتقاد الطريقة التي تم بها تحصين قرارات المكتب “المعين” إذ أن تغيير مشروع الجمعية العامة التي يعدها هذا الأخير يحتاج لتصويت ثلثي أعضاء الجمعية العامة، خلافا للقاعدة في التصور الديمقراطي التي تجعل نفاذ القرارات متوقفا على إرادة الأغلبية العادية، و أن نفاذ رأي الأقلية ضدا على رأي الأغلبية ليس من الديمقراطية في شيء و لا يمت إلى مبدأ التشاركية بصلة.
ان تهميش مشروع التنظيم القضائي الجديد للجمعية العامة يظهر أيضا من خلال اصرار المشرع على تجاهل إحداث هذه المؤسسة على مستوى محكمة النقض رغم المطالب العديدة المقدمة في هذا المجال، ففي الوقت الذي كان يفترض فيه أن تمتد رياح التغيير والإصلاح إلى محكمة النقض لتصبح مثالا للحكامة الجيدة والمقاربة التشاركية والتدبير الديمقراطي في توزيع الشعب والقضايا وتعيين رؤساء الغرف وتنظيم الجلسات وغيرها من الأمور المرتبطة بالتسيير الداخلي والذاتي للمحكمة بما يضمن استقلال القضاء والقضاة لم يأت المشروع الجديد بأي قيمة مضافة حيث تم الابقاء على تدبير العمل بمحكمة النقض من خلال مكتب المحكمة كمؤسسة مصغرة تحاكي الجمعية العمومية من حيث الشكل دون أن تمتد إلى الجوهر.
مقترحات لدمقرطة عمل الجمعيات العامة بالمحاكم :
– تضمين مناهج التكوين بالمعهد العالي للقضاء حصصا لفائدة القضاة المتمرنين والممارسين والمسؤولين القضائيين على حد سواء لتدبير الخلاف وآليات المقاربة التشاركية وهو ما من شأنه أن يصبح مدخلا رئيسيا لدمقرطة عمل الجمعيات العامة، ودمقرطة القرار القضائي المتعلق بتسيير المحاكم، فالنصوص وحدها ورغم أهميتها لا تكف لتحقيق الاصلاح المنشود إذا لم تترجم من خلال ممارسات جيدة وعقليات متفتحة .
– احداث مؤسسة الجمعية العامة على مستوى محكمة النقض لضمان اشراك مستشاري هذه المحكمة التي تتصدر الهرم القضائي، وتفعيل شفافية الجمعيات العامة للمحاكم ؛
– تعميم التنظيم الداخلي للمحاكم من خلال احداث مكتب لكل محكمة يضم المسؤولين القضائيين وتخويل القضاة صلاحية اختيار ممثليهم وفق آليات التسيير الديمقراطي؛
– تمكين ثلث أعضاء مكتب المحكمة من حق الدعوة إلى اجتماع المكتب وعدم قصر هذا الحق على المسؤول القضائي ؛
– اعتبار قيام المسؤول القضائي بخرق الجمعية العامة عن طريق تغيير توزيع الشعب والغرف خارج نطاق ما قررته الجمعية أو سحب قضايا معينة من القضاة المكلفين بالحكم فيها وإسنادها لقضاة آخرين خارج نطاق القانون بمثابة خطأ جسيم موجب للمسؤولية التأديبية. .hespress.com