عبد النباوي: النيابـة العامـة تحـت رقابـة القانون
تحدث محمد عبد النباوي, الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض، رئيس النيابة العامة، في لقاء احتضنته مؤسسة إيكوميديا، المصدرة ليوميتي “الصباح” و”ليكونوميست” وراديو “أطلنتيك”، عن المسارات التي جاءت بها استقلالية السلطة القضائية، بالنسبة إلى رئاسة النيابة العامة وتأصيلها الدستوري، كما تطرق إلى مواضيع تشغل بال الرأي العام في ظل التحول الجديد، الذي أزاح تدخل السلطة التنفيذية في السلطة القضائية، والآليات التي روعيت لمنع “تغول” القضاة والسير قدما بدولة الحق والقانون إلى الأمام، وغيرها من المواضيع الحساسة.
أجرى الحوار : المصطفى صفر – كريمة مصلي – مصطفى لطفي – محمد بها / (تصوير – أحمد جرفي)
< أثيرت أخيرا بشكل مستفيض العديد من النقاشات حول الطبيعة الدستورية للنيابة العامة، ما أثار نوعا من اللبس حول هذه الطبيعة وهل هي سلطة رابعة مستقلة عن السلطة القضائية؟
< في البداية لا بد من الرجوع إلى الـتأصيل الدستوري للسلطة القضائية، إذ أن القضاء قبل دستور 2011، لم يكن سلطة وجاء الدستور بعد ذلك ليرقيه الى سلطة دستورية إلى جانب السلطتين التشريعية والتنفيذية، مع مراعاة خاصية مهمة أنها مستقلة عنهما، ولا يمكن أن تساءل أو تحاسب أو تراقب من قبلهما، مؤكدا على أنها تشتمل على قضاة النيابة العامة وقضاة الحكم.
هذه النقطة الجوهرية التي أتى بها دستور 2011، كان من الضروري أن تترجم داخل قانون تنظيمي، الذي لا يمكن أن ينتج إلا إذا نص عليه الدستور، هو القانون التنظيمي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية، والنظام الأساسي للقضاة، ومن مميزات القانون التنظيمي أنه يعرض بصفة ضرورية على المحكمة الدستورية (المجلس الدستوري سابقا)، لإعطاء رأيه في مدى مطابقته للدستور قبل عرضه على الملك أو نشره، لأن القانون التنظيمي هو مكمل للدستور.
< كيف ذلك؟
< لأن القانون التنظيمي هو أعلى من القانون العادي ويأتي بعد الدستور، ولذلك تراقب المحكمة الدستورية مقتضياته حتى لا تخالف الدستور خلافا للقوانين الأخرى، التي لا تحال للمراقبة على المحكمة الدستورية إلا بناء على مساطر، ومن ثم فالقانونان التنظيميان للمجلس الأعلى للسلطة القضائية والقانون الأساسي للقضاة، أتيا بمقتضيات وأكملا الدستور في ما يخص السلطة القضائية. والذي يجب أن يتم أخذه بعين الاعتبار أن المجلس الأعلى للسلطة القضائية ليس هو السلطة القضائية، وإنما جهاز قيادي داخلها.
< إذن يفهم من كلامكم أن النيابة العامة مستقلة عن المجلس الأعلى للسلطة القضائية؟
< في هذه النقطة لا بد من الوقوف على ما تعنيه السلطة القضائية، من خلال القانون التنظيمي الذي قال إنها تمارس من قبل جميع القضاة الممارسين بالمحاكم المنصوص عليها في التنظيم القضائي سواء من النيابة العامة أو قضاة الحكم، وفقها تتكون منهم ومن أجهزتهم المسيرة. أما الأجهزة القيادية فهما النيابة العامة والمجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي نص عليه الدستور، وحدد أعضاءه ورئاسته التي يتولاها جلالة الملك، وجاء بعده القانون التنظيمي الذي حدد اختصاصاته، والتي تتمثل في تدبير الوضعية المهنية للقضاة، والمهمة الثانية هي حماية استقلال القاضي، أما المهمة الثالثة وضع تقارير وإصدار توصيات حول منظومة العدالة، وهو ملزم بالإضافة إلى ذلك على الأقل بتقريرين يوجههما إلى جلالة الملك، الأول يوجهه الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية عقب انتهاء كل دورة، والثاني يوجهه المجلس حول مهامه وأشغاله العامة ومشاريعه المقبلة، وبعد توجيه إلى الملك تحال نسخة منه على رئيس الحكومة.
ويمكن للمجلس أن ينجز تقارير أخرى تتعلق بالمهام القضائية وحماية المصالح المالية والمهنية للقضاة، كما أنه يدرس مشاريع قوانين حول قضايا تهم منظومة العدالة كما أنه يتلقى تقارير من جهات مختلفة بعضها ينتمي الى السلك القضائي، كما هو الحال بالنسبة للتقرير الذي يوجهه الرئيس الأول لمحكمة النقض والوكيل العام بها إلى المجلس، وبعضها خارج الجسم القضائي. كما أن وزير العدل يوجه تقارير بشأن الإدارة القضائية، وتقارير الجمعيات المهنية للقضاة وتقارير جمعيات المجتمع المدني وهيآت ومؤسسات الحكامة الدستورية.
< من بين هذه التقارير، أليس هناك تقرير يمتاز بالخصوصية؟
< هناك تقرير يضعه الوكيل العام بصفته رئيساً للنيابة العامة، وهو تقرير الذي له خصوصية من بين التقارير الأخرى، لأن المشرع حدد مجاله، والجهات التي يوجه إليها، إذ اعتبر أن المجلس الاعلى للسلطة القضائية يتلقى تقرير الوكيل العام حول سير النيابة العامة وتنفيذ السياسة الجنائية، وأضاف الفصل 110 من القانون التنظيمي، أن المجلس يتوصل به قبل عرضه ومناقشته أمام البرلمان، وكانت الغاية حينما وضع النص أن القراءة تفيد أن الوكيل العام بصفته المسؤول عن تنفيذ السياسة الجنائية، ينجز تقريرا حول سيرها ويقدمه أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية الذي يملك حق محاسبة الوكيل العام وإصدار توصيات بشأن تقريره وفقا للصلاحيات التي منحها له الدستور، وبعدها إلى البرلمان الذي سيناقش التقرير، وهي القراءة التي كانت معتمدة ساعتها من قبل البرلمان، والتي أكد بشأنها وزير العدل والحريات ساعتها أن فرق الأغلبية تقدمت بمقترح تعديل القانون من أجل استعادة النيابة العامة من قبل السلطة التنفيذية، وهو المقترح الذي قال بشأنه الرميد ساعتها إنه تدخل لأجل سحبه في مقابل قبول الحكومة، اقتراح الأغلبية وذلك بإفساح المجال أمام الوكيل العام لمحكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة لتقديم تقريره السنوي عن تنفيذ السياسة الجنائية، أمام لجنتي العدل والتشريع، مع ترك الكلمة الأخيرة للمجلس الدستوري.
مع القراءات المتعددة للنص القانوني، جاءت قراءة المجلس الدستوري، التي أجابت على أن السلطة القضائية مستقلة وتشمل قضاة النيابة العامة وقضاة الحكم، وأن استقلالها يحتم ألا جهة يمكن أن ترأس النيابة العامة خارج الجسم القضائي، ثم بعد ذلك أجاب عن التقرير الذي تقدمه النيابة العامة بالقول إنه “لئن كان الوكيل العام لمحكمة النقض رئيس النيابة، هو المسؤول عن تنفيذ السياسة الجنائية فلا بد أن يساءل ويحاسب، إلا أن المساءلة والمحاسبة لا تتمان بالشروط والكيفيات نفسها المعمول بها ما بين الحكومة والبرلمان، نظرا لخصوصية السلطة القضائية واستقلاليتها عن السلطتين، وبالنظر إلى آليات اشتغالها ودراجات التقاضي”. وهي وسائل يومية وفورية للمحاسبة، كما أكد أن الوكيل يخضع للمساءلة والمحاسبة ليس أمام البرلمان ولكن أمام رئيس المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وأيضا أمام المجلس الاعلى للسلطة القضائية.
< إذن المجلس الأعلى يمكن أن يحاسبكم؟
< طبعا يمكن له محاسبتنا.
كما أن المجلس الدستوري قال إن التقرير يهم الشأن القضائي ويحق للجميع تدارسه، سيما البرلمان الذي يضع السياسة الجنائية، وأكد على ضرورة إيجاد طريقة للتواصل.
ولذلك فالمجلس الدستوري حسم بشكل جدي في مسألة حضور الوكيل العام إلى البرلمان، كما أنه فسر كذلك المراد من إحالة التقرير على البرلمان، الذي يدخل في إطار المحاسبة أو المراقبة وإنما في إطار تجويد السياسة الجنائية.
< الدستور كان قبل الحوار الوطني الشامل لمنظومة العدالة، ولم يحدد السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة؟
< لا خلاف في أن الدستور ذكر مصطلح “السلطة” التي يتبع لها قضاة النيابة العامة، ، لكنه لم يحدد هذه السلطة، ولهذا عندما انطلق حوار الهيأة العليا، تم الشروع في تحديد الجوانب الناقصة أو توضيحها، فجاء السؤال ما هي الجهة التي ستتبع لها النيابة العامة، وكانت هناك اختيارات متعددة، ولكن الاختيارين الأساسين، هو إما أن يكون رئيس النيابة العامة من داخل القضاء، أو من خارجه، وبالنسبة للاختيار الأخير، فكان موجها لوزير العدل، أما من داخل القضاء، فكان هناك خياران، إما إحداث منصب الوكيل العام للمملكة، وبالطبع ليس هو الوكيل العام لمحكمة النقض، أو نحيل سلطة رئاسة النيابة العامة إلى الوكيل العام لمحكمة النقض بنفسه.
< كيف تم إذن تعزيز حظوة الوكيل العام لمحكمة النقض لرئاسة النيابة العامة؟
< هذا هو المحور الذي ناقشه أعضاء الهيأة العليا، فكان انتصار اختيار الرئيس من جسم القضاء، لأن اختياره خارج هذا الجسم سيكون فيه مساس للاستقلال. واستمر النقاش ما بعد الهيأة، بل حتى حين وضع القوانين وحتى إبان تقديم التعديلات المقدمة من قبل فرق الأغلية، بل تواصل حتى حين تنزيل القوانين وتعيين الوكيل العام لمحكمة النقض لممارسة مهامه.
ضمانات
عندما شرع في وضع الفصل 96 من النظام الداخلي، تم استلهام الفقرة الأخيرة من المادة 116 من الدستور، ووضعت بحذافيرها وعرفت تلك السلطة التي يتبع لها قضاة النيابة العامة بذكر “الوكيل العام لمحكمة النقض”، إذن فبهذا المعنى فالدستور من اختار رئاسة النيابة العامة، ثم إن المجلس الأعلى للسلطة القضائية يتكون من شخصيات لا تنتمي إلى السلك القضائي، وبالتالي فهذا يأتي بضمانات حقيقية، تزيح كل التخوفات من تغول القضاة وغير ذلك مما يخشى منه.
هي ليست سلطة دستورية بمعنى pouvoir، هي مؤسسة قيادية كما هو المجلس الذي هو مؤسسة قيادية داخل مجموع القضاة، فالبرلمان ليس هو رئيس مجلس النواب بل هو المجلسان معا وأجهزتهما القيادية.
لا رأي لمن لا يطـاع
< كيف يمكن لرئيس النيابة العامة أن يوازي بين عمله في محكمة النقض، وعمله في إطار رئاسة النيابة العامة؟
< المنطق كان يفترض أن يتفرغ رئيس النيابة العامة لهذه المهمة الجديدة، بألا يزاول مهام محكمة النقض، ولكن بما أنها مؤسسة تسلسلية، أي تخضع لهرمية في المراقبة، فكان لا بد من أي يكون لهذه الرئاسة نفوذ على المرؤوسين، حتى تقوم بمهامها على الوجه الصحيح، فالأوامر حتى تطاع ينبغي توفر الحد الأدنى من النفوذ، إذ “لا رأي لمن لا يطاع”. وعند التمعن في الدستور للبحث عن “النفوذ”، نجده يتمثل في سلطات محددة وهي سلطة العزل والتعيين والتأديب إلخ..، وهي السلطة التي تطاع أوامرها لما لها من تلك الصلاحيات المحددة قانونا. وهذا ما دفع الهيأة العليا، إلى البحث عن سلطة ناجعة بعيدة عن الاصطدام بجهة أخرى مثلا في حال اختيار “الوكيل العام للمملكة”، حتى لا يصبح للنيابة العامة رأسان، فكان اختيار الوكيل العام لمحكمة النقض ينسجم مع هذا المعطى، فهو من جهة الرئيس التسلسلي لقضاة النيابة العامة، ومن جهة أخرى عضو بمقتضى الدستور في المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وهو ما يتيح له القيام بمهامه على الوجه الأكمل.
< من يتحكم في وضعية قضاة النيابة العامة؟
< المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو الذي يدبرها من ألفها إلى يائها ولا يلزم إلا بتقارير رئاسة النيابة العامة والرؤساء التسلسليين، فرئيس النيابة العامة رئيس إداري وقضائي.
وزير العدل كانت له إمكانيات التأثير
< هل الحريات في يد أناس نثق فيهم أم في يد أناس يزجون بنا في السجن في أي لحظة؟
< الجواب هنا كبير، في ما يتعلق بانعكاسات استقلال السلطة القضائية، ينبغي ألا نغيب عن أذهاننا أن هذا الاستقلال الذي أتى به الدستور، هو مؤسساتي فقط، وأن القوانين التنظيمية لم تغير شيئا في هيكلة النيابة العامة ولا في وسائل عملها ولا في المساطر، بمعنى أن الرأس تغير وما زالت الآليات نفسها. ما زلنا نشتغل بالآليات نفسها بل بالعكس جرى تقليصها، فالسلطات التي كانت لوزير العدل بالنسبة إلى رئاسته للنيابة العامة لم تنقل كلها بل نقل جزء كبير منها إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو إلى الرئيس المنتدب, إلخ.
كان يفترض أن يستغل رؤساء النيابة العامة المنتمين إلى أحزاب ولديهم برامج سياسية مشروعة، وأحزاب مختلفة التوجهات. كان يمكن أن تؤثر هذه الاتجاهات على قرارات المرؤوس، فوزير العدل كانت له إمكانيات قوية للتأثير، وطبيعة الحال قرارات المرؤوس خطيرة جدا فهي قضائية تمس الحريات وغيرها، ويمكن أن تتأثر برؤى ليست قضائية وليست قانونية، فأن تتأثر بالقانون فهذا مقبول، فهذا يعكس رأي الأغلبية، لكن عندما يصبح التأثير خارجا عن القانون، هنا نصبح أمام الخطورة على المرتفقين.
فالأنظمة الدستورية تسعى لتخليص القضاة من السلطة التنفيذية، وهذا التوجه تسير عليه أغلب الدول الديمقراطية وذلك لضمان الاستقلال.
السطو على العقارات
السطو على العقارات ليس ظاهرة، لأن هناك فقط 60 قضية تروج أمام المحاكم، من أصل مليونين ونصف المليون قضية، من بينها مليون و300 ألف ملف زجري، لكن ما جعلها تصل إلى هذا المستوى، أن نظام التحفيظ العقاري الذي كان يعتبر أنه لا يخرق، ويعتبر ضمانة كافية لحماية الملكية، توصل المتهمون والنصابون إلى طرق لاختراقه، ليس في نظام التحفيظ العقاري في حد ذاته، بل في الأسباب المؤدية إلى الملكية، إذ مثلا يقومون بتزوير وكالة المالك، وغالبا ما تتم في الخارج وعلى يد موثقين أجانب.
وفي مناسبات يتم تزوير رسم الإراثة، وبطائق التعريف الوطنية، وجوازات السفر، وأحيانا عقود الملكية بمشاركة موثقين وعدول وأطراف أخرى، وكل ما ذكرته يعد طريقا يؤدي إلى الملكية.
لهذا أقول إن السطو على العقار ليس ظاهرة لكثرتها، بل لأنها خرقت نظاما عقاريا، اعتبر نموذجيا يوم وضعه من قبل الحماية الفرنسية.
قامت الحكومة بتعليمات من الملك، بتدابير متعددة على مستوى القانون والمحافظة العقارية، لضبط منافذ الاطلاع على المعلومة، كما شددت المراقبة على عمل الموثقين والعدول والمحامين لحظة تحرير العقود، كما تعد مشروعا في قانون المسطرة الجنائية من أجل تفعيل تدابير احترازية، من بينها عقل العقار ووقف بيعه إذا كان موضوع نزاع.
أما في ما يتعلق بالعقارات المستهدفة، فهي ليست بالضرورة في ملكية الأجانب، إذ بينت دراسة لشكايات في هذا الموضوع، أنها عقارات مهملة ومالكوها غير موجودين، يتم رصدها من قبل المتهمين، إذ يتعرفون على هوية مالكيها ثم يتلاعبون في وثائق ملكيتها، لهذا عمدت المحافظة العقارية بتنسيق مع السلطات المحلية، إلى إحصائها، وإخضاعها لمقاربة فعالة لتفادي السطو عليها.
< ألا يؤثر غياب الاستقلال المالي للنيابة العامة، على استقلالها الفعلي؟
< من الطبيعي من أجل أن يكون هناك استقلال فعلي للنيابة العامة، أن تتمتع باستقلال مالي، إذ سيمكنها من تطبيق برامجها. بكل موضوعية، هيكلة التنظيم القضائي بالمغرب، تصعب تحقيق الاستقلال المالي.
في دول أخرى تحققت على أرض الواقع، فمثلا في السودان، نجد أن لمؤسسة النيابة العامة بنايتها الخاصة، وقضاتها يحضرون الجلسات بالمحاكم ويعودون إلى مقراتهم، كما أنها تشرف على التسيير المالي، اعتمادا على مواردها الخاصة، ليس كما الأمر بالمغرب، إذ إذا كنا في حاجة إلى سيارات، نستعين بتلك التابعة للشرطة وإدارة السجون، ويجب مراسلة وزارة العدل من أجل الاستفادة منها، ويبقى القرار معلقا على موافقتها.
نعمل في المحاكم نفسها، نشارك القضاة وكتاب الضبط هذه البنايات إذن، كيف سنشرف على التسيير المالي لمؤسس النيابة العامة وتوفير جميع متطلباتها، حتى تلك البسيطة. أرى أن الأمر صعب جدا، كما أن الموارد المالية للبلد غير كافية.
لا أريد تضخيم الموضوع عند إثارة هذه الإشكالات، فالأمور تسير بشكل طبيعي كما كانت من قبل. لم نلاحظ هذه السنة أي شيء يترجم تلكؤا في تنفيذ بعض البرامج المرتبطة بالميزانية، فوزارة العدل تشتغل مباشرة مع المحاكم التي تطالبها بالمقضيات وتنفيذها في حدود إمكانياتها، ولم تصلنا بعد أي تظلمات في هذا الشأن، وإن وصلت مستقبلا، وأتمنى ألا تتحقق، ستكون موضوع نقاش وتفاهم، من أجل وضع اليد على الخلل.
< توجه انتقادات للنيابة العامة في ملفات جرائم الأموال، لأن المتهمين يتمتعون بأحكام مخففة، ما تعليقك؟
< جرائم الأموال من القضايا الصعبة، فاختلاس المال العام لا يتم بطريقة بسيطة كما يعتقد الجميع، أي سرقة المال من قبل الموظف من خزينة المؤسسة التي يشتغل بها والتصرف فيه، بل يكون عن طريق خروقات وتلاعبات في الصفقات، والبحث والتحقيق في صفقة واحدة يتطلب سنوات عديدة.
نحن في النيابة نسارع إلى جعل قضاتنا وضباط الشرطة متخصصين في جرائم الأموال، لكن رغم ذلك، لن يكونوا في حنكة وخبرة مرتكبي الجريمة، فخبير الحسابات، مثلا، عندما يتورط في تزوير وثائق محاسباتية، فهو ينفذها باحترافية عالية، لأنه خبير في هذا المجال، لهذا فرغم إخضاع قضاة النيابة العامة والشرطة لتكوين لأشهر في هذا التخصص، هناك صعوبة في معالجة مثل هذه الملفات.
أما في ما يخص القضايا السهلة من قبيل الرشوة، فقد نجحنا في وضع آليات لها، والنتيجة، هناك 13 ألف قضية، كما طبقنا الخط المباشر، الذي مكن من ضبط المتورطيين في حالة تلبس، وإن كان غير كاف في بعض القضايا، كما الأمر لتقني ضبط متلبسا بتسلم مبلغ مالي، فادعى أنه دين، ولغياب الأدلة، قضت المحكمة ببراءته.
< ما مصدر الشكايات التي تتوصل بها النيابة العامة في جرائم الأموال؟
< يتم تحريك المتابعات في قضايا جرائم الأموال بناء على الملفات المسلمة
من المجلس الأعلى للحسابات أو تقارير المفتشيات العامة، سواء التابعة للداخلية أو المالية أو باقي الوزارات، ثم شكايات أعضاء المجلس الجماعية والجهوية، وأيضا مقاولين تعرضوا للابتزاز، دون إغفال شكايات الجمعيات المهتمة بالمال العام.
نتفاعل بشكل جدي مع كل شكاية نتوصل بها، لكن هناك ملاحظة مهمة، وهي بخصوص الشكايات القادمة من المجلس الأعلى للحسابات، إذ أن تقاريرها دقيقة ومفصلة، لأن أطرها قامت بالبحث المالي الأولي، ما يساعدنا على التوجه مباشرة إلى مكمن الخلل، في حين تفتقد الشكايات العامة، لهذا المعطى، ما يتطلب مجهودات كبيرة في التحريات للوقوف على هذه الاختلالات، وإمكانيات مالية كبيرة.
رفض طعون النيابات العامة
في ما يتعلق بمسألة طعون النيابة العامة في الأحكام، لا تطرح مشاكل على مستوى محاكم الموضوع، لأن الطعن يتوجه إلى الوقائع والقانون، والوقائع يدخل فيها أيضا حتى تقدير العقوبات، إذ قد يتبين للنيابة العامة أن العقوبة غير كافية أو تطالب بتغيير الحكم لفائدة اتجاه آخر، لكن هناك فعلا مشكلا في الطعن بالنقض، إذ تبين لنا أن أغلب الطعون التي تتقدم بها النيابات العامة أمام محكمة النقض، لا تقبل أو ترفض، وهذا له سبب واحد مصدره القانون. فبالنسبة إلى الطرف المدني أو المتهم، يبدأ أجل الطعن بالنقض لحظة توصلهما بالحكم، إذ يطلعان عليه للتأكد من وجود هفوة قانونية، يبنى عليها قرار الطعن بتبصر ودراية.
على نقيض النيابة العامة يبدأ الأجل يوم النطق بالحكم، و90 في المائة، لا تكون نسخة الحكم متاحة يوم صدوره، وأحيانا لا يتم التوصل به إلا بعد فوات أجل الطعن، المحددة في عشرة أيام، ولذلك تتخذ النيابة العامة قرار الطعن بناء على النتيجة، مثلا تطعن في حصول المتهم على البراءة دون علمها بالأسباب التي اعتمدها القاضي في منطوق الحكم، والتي قد تكون وجيهة ومنطقية. وهنا أود أن أشير إلى مسألة في غاية الأهمية، وهي أنه في حال عدم طعن النيابة العامة يتم اتهامها بالرشوة والتواطؤ، ما يدفعها إلى الطعن من أجل الطعن فقط، لتفادي مثل هذه الاتهامات.
تعليمات الهاتف… أكذوبة
تخليص القضاة من نفوذ السلطة السياسية سيكون له أثر على المدى البعيد، حيث أن الكلام الذي يتداوله الناس عن وجود تعليمات الهاتف يتم تكذيبها في الواقع. أتساءل من أين ستأتي مكالمات التعليمات؟ يمكن تقبل مقولة إنه في الماضي يمكن للوزير إعطاء تعليماته عبر الهاتف، لكن اليوم، بعد استقلال النيابة العامة، من أين ستأتي هذه المكالمة؟.
رئيس النيابة العامة قاض ليس هناك رئيس مسؤول عنه، وإذا ما قام باتصال فإنه في إطار القانون ويمكن للقاضي أن يقوم برفض التعليمات الهاتفية، إذا كان الموضوع مخالفا للقانون، لأنه ليس تعليما كتابيا وثانيا لأنه ليس قانونيا.
إذا قبل قاضي النيابة العامة تعليمات الهاتف فإنه يجب أن يدافع عن نفسه، لأن القانون لا يلزمه بتعليمات الهاتف وإنما يلزمه بالتعليمات الكتابية. لنفرض أن هذا القاضي أعطيناه تعليمات عبر الهاتف وقد يحدث في بعض الأحيان، لأن قضاة النيابة العامة يستشيرون معنا في إطار العمل، ولكنها لا تعتبر تعليمات، بل استشارة وتوجيها إذا قبلها فإنه يعمل بها.
ما يمكن أن أحاسب قاضي النيابة العامة عليه، هو عندما يتعلق الأمر بتعليمات كتابية ولا ينفذها فإنه يحال على المجلس الأعلى للسلطة القضائية لمحاسبته. إما إذا تلقى مني تعليمات شفوية فإنه لا يمكن الذهاب إلى المجلس الأعلى، لأنه لا يمكنني القول إنه خالف تعليمات شفوية، وهو ما سيجعلني مخالفا للقانون لأن التعليمات له ليست بالشكل القانوني، أي مكتوبة.
سيكون القضاة اليوم مطمئنين لأنه أصبحت لديهم القدرة على تطبيق القانون بحزم وصرامة، لأنهم سيحاسبون على كيفية تطبيق القانون أمام الهيآت القضائية التي تديرهم، وإذا خالفوا بشكل واضح أو خطأ جسيم أو خرق للقانون، فإنه تتم محاسبتهم أمام المجلس الأعلى للسلطة القضائية، وبالتالي فإنه ليس لديهم تخوف على مصيرهم.
استقلال القضاة لا تمسه السلطة الرئاسية فقط، أو خضوعه لسلطة وزير العدل في السابق، وإنما هناك مغريات أخرى من بينها المال والجاه والنفوذ المعنوي في المجتمع وأيضا نفوذ الصحافة التي تؤثر على القضاة، فعندما نجد وسائل الإعلام تسب قاضيا ما يعالج ملفا ما، أو لأن طائفة ما لم يعجبها الحكم الصادر عن القاضي فتؤلب عليه الناس أليس هذا تأثيرا؟ لكي يكون هناك تطبيق سليم للقانون ونجاعة في الأداء يجب تقوية استقلالية القضاة ثم نحاسبهم بعد ذلك.
خرج القضاة من وضعية إلى عهد جديد ويجب أن نمنحهم الثقة في أنفسهم وفي قراراتهم ونتركهم يشتغلون ثم نحاسبهم بعد ذلك، لكن أن نسمع من الآن كلاما مفاده وجود تعليمات الهاتف فهذا كلام مردود عليه، لأن الجهة التي ترأس النيابة العامة ليس لديها أي انتماء سياسي وليست ملزمة بالتملق لأي جهة للعطف عليها، إلا القانون، الذي ستحاسب عليه حول إن كانت قد طبقته أم لا.
لم يعد مقبولا اليوم عند اتخاذ أي قرار الحديث عن وجود مكالمة لإعطاء التعليمات.
نقاش “فيسبوك”
أي شخص ارتأى ترويج كلام غير منطقي ينشره في مواقع التواصل الاجتماعي، لأننا لا يمكن أن نرد على أي كلام يتم تداوله في الفضاء الأزرق، فالنقاش حول قضايا المحاكم يثار داخل المحكمة فقراراتنا ليست بالسرية. قرارات النيابة العامة تأخذ بالمكتب لكنها تعرض على المتابعة وتناقش ومن لديه شيء يريد قوله فليقله داخل المحاكم، والمحكمة يجب أن تعلل إذا قبلت أو رفضت دفوعات النيابة العامة أو خصومها، وهذا هو النقاش الحقيقي الذي يجب أن يكون في الواقع.
للأسف هناك اتجاه في بعض قضايا الرأي العام التي أصبحنا نناقشها في مواقع التواصل الاجتماعي قبل أن نناقشها في المحاكم، وأن النقاش الذي يوجد داخل جلسات المحاكم ليس هو النقاش الذي ينعكس على فيسبوك، وهذا ما يؤدي إلى إعطاء صورة سلبية عن العدالة، وهي صورة لا تمت للواقع بصلة، لأن فيسبوك قدم أشياء لا تناقش أمام المحكمة.
أطلب من المواطنين رأفة بقضائنا في إطار التجربة الجديدة الثقة فيه ومنحه فرصة للاشتغال، للأسف هناك بعض الملفات الرائجة أمام القضاء يتم فتح نقاشات موازية حولها بمواقع التواصل الاجتماعي وعلى ضوئها تتولد لدى الناس قناعات أخرى مخالفة، لما يجري أمام القضاة في المحاكم وللحجج وللمناقشات التي تستند عليها المحكمة.
تجاوزات بعض المحامين
أظن أن المحاماة مهنة نبيلة جدا حتى أن الحسن الثاني قال لو لم أكن ملكا لاخترت أن أكون محاميا. أغلبية المحامين هم شرفاء ويعتبرون أنفسهم متعبدين في محراب العدالة وهم جزء من العدالة ومساعدون لها، ولكي تساعدهم العدالة يجب الالتزام بقواعد التقاضي فهناك مساطر وإجراءات، ولكن كما يقول المثل المغربي “حتى زين ما خطاتو لولة” سواء داخل القضاء أو المحاماة أو الصحافة أو غيرها. لا بد أن تجد بعض الأشخاص الذين لديهم رؤى وتوجهات أخرى.
أحيانا يبتكر المحامون وسائل للدفاع عن موكليهم خارج نمط المساطر، وينقلون تلك النزاعات التي توجد داخل المحاكم إلى الرأي العام، ويستغلون حريتهم وحقهم في التعبير وعدم التزامهم بالحياد الذي يلتزم به القضاة، وعدم التزامهم بواجب التحفظ أو انتماءهم لأحزاب أو نقابات أو جمعيات ويبدؤون من ذلك المنطلق في الترويج لما يريدون، وهو ما يؤدي إلى إحداث ضرر بصورة العدالة.
أعتقد أن بعض المحامين عليهم مراجعة موقفهم لأنهم اختاروا المحاماة التي هي مهنة النبل والشرف، ويجب أن يلتزموا بقواعدها وأعرافها، وهناك من جهة أخرى هيآت المحامين التي تراقب الأوضاع وتتدخل عندما يقتضي الأمر ذلك.
لاحظنا في المحاكمات التي جرت في البيضاء أن جمعية هيآت المحامين بالمغرب أصدرت بلاغا وانتقدت فيه بعض السلوكات الصادرة عن بعض المحامين، وهذا موقف يحسب للجمعية ولرئيسها ولأعضائها، وهو البلاغ التاريخي الذي وقعه عمر ودرا، كما أن هيأة المحامين بالبيضاء أصدرت بيانا دعت فيها محاميها إلى الالتزام بقواعد التقاضي وأخلاقيات المهنة، وطالب النقيب عبد اللطيف بوعشرين المحكمة بأن تكون أكثر صرامة حينما ترى أن بعض المحامين لا يراعون الوقار الذي يجب أن يتجلى في جلسات المحاكمة، كما أن هيأة تطوان أصدرت بلاغا في هذا الشأن ودعت محاميها إلى الالتزام بالقواعد، وهذا ما يجعلنا غير قلقين على مسار العدالة، لأننا نعتبر أن للبيت ربا يحميه، ونعتبر أن هيآت المحامين قادرة على ضبط المحامين، كما أنه في حالة التجاوزات الأخرى يمكن للقضاء التدخل، لأنه له أيضا صلاحيات.