قانون العقود بين التنظيم العام و التنظيمات الخاصة


                            قانون العقود بين التنظيم العام و التنظيمات  الخاصة                                   مقدمة:

يشرفني أن أساهم في هذه الندوة العلمية التي تنظمها شعبة القانون الخاص، كلية الحقوق بالدار البيضاء تحت عنوان: “ظهير الالتزامات والعقود بعد مائة (100) سنة، الثابت والمتغير”، وهي في الحقيقة استمرار لندوة سابقة نظمتها نفس الشعبة في نفس الموضوع تحت عنوان: “الأيام الدراسية حول ق ل ع والمجتمع بعد مضي سبعين سنة”[1]، حيث اشتملت أشغالها عدة مداخلات هامة شكلت لحد الساعة مرجعا لكثير من الأبحاث والدراسات القانونية.

أرجو أن تحظى هذه الندوة بنفس النجاح الذي حظيت به نظيرتها المذكورة.

موضوع مداخلتي هو: “قانون العقود بين التنظيم العام والتنظيمات الخاصة، الحصيلة والآفاق”.

ولكي أضع القارئ الكريم ضمن الإطار العام للموضوع أنطلق من ملاحظة ما ارتفع من عديد الأصوات التي تنادي منذ مدة طويلة بتعديل كثير من مقتضيات ق ل ع حتى تواكب متطلبات العصر الحاضر.

لكن في البداية لم يستجب المشرع لهذه النداءات إلا بصورة محدودة لأنه كان مقتنعا إلى حد ما بأن نظرية الالتزام تتميز بعالميتها، أي بثباتها واستقرارها عبر التاريخ، وصلاحيتها للتطبيق عند كل الدول وفي كل الأزمنة.

لكن في وقت لاحق تغيرت نظرة المشرع الذي أصبح مقتنعا بأن نظرية الالتزامات والعقود تسعى إلى تنظيم العلاقات المالية للأشخاص، لذلك لا بد أن تتكيف مع متطلبات المجتمع، وأن تخضع لتأثير الاعتبارات المتنوعة التي تقوم فيه وبالتالي فمن الضروري أن تتطور لتواكب تطوره[2].

وهكذا فقد صدرت عندنا منذ نهاية القرن الماضي بالخصوص عدة قوانين تشكل تنظيمات خاصة لأغلب العقود المسماة التي أصبحت تتطور خارج ق ل ع كما سيأتي.

وللإحاطة بموضوع هذه المداخلة سوف أقسم الكتابة إلى مبحثين:

المبحث الأول: أسباب ومظاهر تشتت قانون العقود.

المبحث الثاني: حصيلة تشتت قانون العقود وآفاق تعديله.

المبحث الأول: أسباب ومظاهر تشتت قانون العقود

قبل أن نتطرق لمظاهر تشتت قانون العقود يتعين علينا أن نبادر بعرض أسباب ذلك.

الفقرة الأولى: أسباب تشتت قانون العقود

لقد أصبح قانون العقود يتطور خارج ق ل ع في إطار تنظيمات خاصة يتزايد عددها مع مرور الزمن وذلك بالنظر لعدة اعتبارات أهمها:

أولا: تطور الحياة الاقتصادية والاجتماعية

بحيث لا يجادل أحد في أن بلدنا يشهد في الوقت الراهن حركية اقتصادية متصاعدة يواكبها ازدياد وتيرة التعامل في مختلف المجالات، وهذا ما استوجب ظرورة إعادة النظر في قانون العقود حتى يواكب هذا التطور[3].

ثانيا: تراجع الأسس التقليدية لقانون العقود

والتي تستند إلى مبدأين أساسيين: مبدأ سلطان الإرادة بمقوماته الثلاثة: حرية التعاقد، القوة الملزمة للعقود، وآثارها النسبية[4] ومبدأ شخصية المسؤولية.

مقال قد يهمك :   ظاهرة الاستيلاء على عقارات الغير : قراءة على ضوء الرسالة الملكية و تعديل المادة 4 من مدونة الحقوق العينية

وفي مقابل ذلك تأثر المشرع إلى حد ما بالتوجهات الحديثة لقانون العقود والتي تؤسس الروابط العقدية بالاستناد إلى قاعدتي المنفعة الاجتماعية والعدالة التعاقدية[5].

ثالثا: إصدار عدة قوانين آمرة تتبنى فكرة العقد الموجه:

وهي تسعى بالخصوص إلى حماية الطرف الضعيف (مثلا المستهلك في عقود الاستهلاك) وضمان تطور قار للاقتصاد الوطني.

ومن ثم فقد تضاعفت القوانين ذات الصلة بالنظام العام بمفهومه الواسع الذي لم يعد يقف عند حدود الحفاظ على المصالح الخاصة (أي الحريات الفردية وحق التملك كما هو الشأن في الماضي، بل أصبح يشمل أيضا قواعد السياسة الاقتصادية والاجتماعية المعتمدة من طرف الدولة خدمة للصالح العام والتي لا يجوز للعاقدين مخالفتها في اتفاقاتهم، وكذا التنظيمات المتعلقة بحماية الأطراف الضعيفة في الروابط العقدية (مثلا العامل في مواجهة رب العمل والمؤمن له في مواجهة المؤمن).

رابعا: ازدياد دور الشكلية في مجال التعاقد

فقد تكون بعض الشكليات واجبة لصحة عقود معينة (مثلا البيوع العقارية التي تتطلب الكتابة والتقييد بالرسم العقاري)[6]. وقد يكون البعض الآخر منها واجبا لأغراض أخرى كإثبات العقود وضمان نفاذها إزاء الغير.

الفقرة الثانية: مظاهر تشتت قانون العقود

لقد أدت الأسباب السالفة إلى تشتت قانون العقود، بحيث أصبحت أهم العقود المسماة تخضع لتنظيمين: تنظيم عام وارد في ق ل ع، وتنظيمات خاصة صادرة بموجب قوانين متفرقة. وهذا ما سوف نلمسه من خلال تنظيم العقود الآتية:

أولا- تنظيم عقد البيع

النموذج الأمثل لتشتت قانون العقود هو عقد البيع الذي تدور أحكامه بين تنظيمين:

1- تنظيم عام وارد في ق ل ع، القسم الأول من الكتاب الثاني تحت عنوان: “في مختلف العقود المسماة وفي أشباه العقود التي ترتبط بها”، الفصول من 478 إلى 618.

2- وتنظيمات خاصة صادرة بموجب قوانين متفرقة نذكر من أبرزها:

  • قانون 31.08[7] القاضي بتحديد تدابير لحماية المستهلك وهو يستهدف بالأساس المحافظة على مصالح هذا الأخير في عقود الاستهلاك سيما عقود الشراء التي يقبل على إبرامها.

وهو على حد تعبير البعض قانون التزامات وعقود جديد ينضاف إلى ق ل ع التقليدي.

  • قانون 53.05[8] المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية وهناك من يقول فيه بأنه تعديل غير مسبوق طال كيان ق ل ع[9].
  • قانون 44.00[10] بخصوص بيع العقارات في طور الإنجاز.
  • قانون 06.99[11] المتعلق بحرية الأسعار والمنافسة.
  • قانون 17.97[12] المتعلق بحماية الملكية الصناعية.
  • قانون 2.00[13] بخصوص حقوق المؤلف والحقوق المجاورة.

ثانيا: تنظيم عقد الهبة

8- بالرغم من شهرة عقد الهبة وكثرة تداوله فهو لم يحظ بأي تنظيم خاص في ظل ق ل ع[14] الذي استبقاه ضمن طائفة العقود غير المسماة التي يعتبر الأصل فيها هو الإباحة إلا ما استثني بنص خاص.

مقال قد يهمك :   مرسومي تحديد كيفيات منح بطاقة الصحافة المهنية والصحافي المهني المعتمد وتجديدها

وفي مقابل ذلك فقد صدرت تنظيمات خاصة لهذا العقد نذكر من أهمها:

  • م ح ع التي نظمت هبة العقار أو الحقوق العينية العقارية (المواد من 273 إلى 289).
  • قانون 16.98[15] المتعلق بالتبرع بالأعضاء والأنسجة البشرية وأخذها وزرعها.

ثالثا: تنظيم عقد الشركة

وهو بدوره يخضع لتنظيمين:

1- تنظيم عام، وهو منصوص عليه في ق ل ع الباب الثاني تحت عنوان: “الشركة التعاقدية” من القسم السابع، الكتاب الثاني، أي الفصول من 982 إلى 1063.

2- وتنظيمات خاصة تتعلق خصوصا بقانون الشركات التجارية ومن ضمنها:

  • قانون 17-95[16] بخصوص شركات المساهمة.
  • قانون 5.96[17] المتعلق بشركة التضامن وشركة التوصية البسيطة وشركة التوصية بالأسهم والشركة ذات المسؤولية المحدودة وشركة المحاصة.

رابعا: تنظيم عقد الكراء

يحكم عقد الكراء هو الآخر تنظيمان: أحدهما عام والآخر خاص.

1- فالتنظيم العام: جاء به ق ل ع في فصوله من 627 إلى 722 وهي تتعلق بإجارة الأشياء.

2- أما التنظيمات الخاصة، فقد صدرت بمقتضى قوانين متفرقة نذكر من أبرزها:

  • قانون 67.12[18] الخاص بتنظيم العلاقات التعاقدية بين المكري والمكتري للمحلات المعدة للسكنى أو للاستعمال المهني.
  • ظهير 24 ماي 1955 المتعلق بعقود كراء الأملاك والأماكن المستعملة للتجارة أو الصناعة أو الحرف.
  • قانون 51.00[19] الخاص بتنظيم الإيجار المفضي إلى تملك العقار.
  • مدونة التجارة التي عالجت عقد الائتمان الإيجاري ضمن المواد من 431 إلى 442.

خامسا: تنظيم عقد الشغل

وتتأرجح أحكامه بين تنظيمين:

1- تنظيم عام: وارد في ق ل ع، الفرعين الأول والثاني من الباب الثاني تحت عنوان: “في إجارة الصنعة وإجارة الخدمة” من القسم الثالث الكتاب الثاني، وبالتحديد النصوص من 723 إلى 758 مكرر.

2- أما التنظيمات الخاصة فتشملها بالخصوص مدونة الشغل ضمن كتابها الأول تحت عنوان: “الاتفاقيات المتعلقة بالشغل”.

سادسا: تنظيم عقد الوكالة

وهو الآخر يخضع لتنظيمين:

1- تنظيم عام : اشتمله ق.ل.ع،القسم السابع من الكتاب الثاني ، أي الفصول من 879 إلى 958.

2- أما التنظيمات الخاصة لهذا العقد فتتعلق بالخصوص بالوكالة التجارية التي نظمتها م ت ضمن المواد من 393 إلى 421 والوكالة بالعمولة التي عالجتها نفس المدونة بموجب المواد من 422 إلى 430.

وقد مثل ذلك في بقية العقود المسماة التي أصبحت تتطور خارج القواعد العامة، بحيث إن الإلمام بأي أحد منها يقتضي الرجوع إلى تنظيمه معا: تنظيمه العام الوارد في ق ل ع وتنظيمه الخاص الصادر بموجب قوانين خاصة أشرنا إلى بعضها وهي تتكاثر مع مرور الزمن[20].

.maroclaw.com


اضف رد

لن يتم نشر البريد الإلكتروني . الحقول المطلوبة مشار لها بـ *

*

x

‎قد يُعجبك أيضاً

استقلال السلطة القضائية

استقلال السلطة القضائية   حيث أن شعوب العالم تؤكد في ميثاق الأمم المتحدة، في جملة ...